مِن الناسِ مَن لا يحتمل الألمَ مُطلقًا؛ يصرخ لأقلِ إصابة، وينهار مِن أصغر جُرح. أعرف مِن الأقرباء والصديقاتِ والأصدقاء؛ مَن يملأ المَنزلَ بالتأوهات إذا التهبَ حلقُه؛ لا يتمكَّن مِن الصُمود أمام الوَخَزاتِ التي تؤرّقه، فيُسري عن نفسهِ بتحويلها إلى "آه" قصيرة أحيانًا، ومُطوَّلة مَمدودة في أحيانٍ أخرى. أعرف أيضًا مَن تستغيث مُتوجّعة إذا اقتربَ منها المحقَن حاملًا الدواءَ المَوصوف، فيما لم يمسُّها سِنُّه بعد؛ تخشى الألمَ قبل أن يجيء، وتفزع لمُجرَّد التفكير فيه.
***
الصمتُ إزاء مُؤثّر مُؤلم لا يعني أن الشَّخصَ لا يشعر به. أحيانًا ما تكون طبيعةُ المرءِ وميولُه أقوى مِن أحاسيسِه الفسيولوجية. هناك مَن يشعر بألمٍ جسديّ فائق، لكنه لا يُبدي شيئًا لمَن حوله؛ تظلُّ ملامِحُه هادئةً، لا تعكس الوَجعَ ولا تشي بأن ثمَّة ما يَسوء. عرفت امرأةً في مُنتَصَف العمر خرجَت مِن عملية جراحيةٍ كُبرى، وفي مَوعد الكشف الأول والمُتابعة؛ إذا بالطبيب يسأل مُتوجّسًا مُرتابًا؛ إن كانت مريضتُه لا تشعر فعلًا بأي ألم. خدعته ابتسامتُها الثابتة فيما تكاد تقفز مِن سريرها مع كُلّ لَمسة، وقد ظنَّ لهدوئها أن في الأمر سُوءًا وأنه قد تجَنَّى على العصبِ المَمدود حتى ثنايا المُخ، وقطعه وقطع معه نعمةَ الإحساس. لما رأت الذهول على وجهه باديًا والتوتر يتخذ الطريقَ إلى ملامِحِه؛ اعترفت أنها تماسكت وهو يُطهّر مكانَ الخياطة؛ كي لا يشعر بالقلق، وينهي عملَه دون مُنغّصَات، وعلى أكمل وجه.
***
لغةُ الجسد تكشف الألمَ وتُفصِح عن شدَّته في أغلب الأحيان. بعضُ الناس يَصر على أسنانِه ألمًا، والبعضُ الآخر تنفصد من جبينه حباتُ عَرَقٍ باردة، وتنقبض شعيراتُه الدموية؛ فيبهت لونه ويتحول إلى شحوب عميق. آخرون تتقلص عضلاتُهم بعنفٍ فتضيف إلى الألم ألمًا، أما تقطيبة الحاجبين فليست خاصة بالألم وحده؛ بل تصنعها مشاعرٌ وأحاسيسٌ مُتعدّدة كالغضبِ والضيق.
***
الأنين فعلٌ مُستمَد من قاموس الألم، صوت يُعبّر بامتياز عما يقاسي صاحبُه. قد يكون الأنينُ حقيقيًا مَسموعًا، وقد يغدو مَجازًا فنيًا؛ يستخدمه كاتبٌ في وَصف حالٍ مِن المُعاناة النفسية القُصوى التي لا يتأتى الإنصاتُ لها. في إحدى مجموعاتِه القصَصِية؛ كتب يوسف إدريس حكاية قصيرة بعنوان "لغة الآي آي"؛ تصف صوتًا يشبه العواء، يصدر متصاعدًا عن إنسان غير قادر على تحمُّل الآلام المُضنية التي تنهش جسدَه وتفتّته. تتحول "الأي" الخارجة مِن حنجرته إلى لغةِ خاصة تشقُّ الفضاءَ، وتخترق أذنيّ البطل الذي تقوده الظروفُ إلى المَبيت في المكان نفسه. المرضُ أقوى مِن إرادة الكتمان، والأنات تفضح السِرَّ وتنتهك الحجابَ، والألم الذي يفترس جَسَدَ المريض، يفترس في الوقت ذاته روحَ البطل وينهكها ويجعله عاجزًا عن احتمال المَزيد.
***
الألمُ الجسديّ والألمُ النفسيّ؛ كلاهما مُرهِق على حدّ سواء. كلاهما يعكس ضربًا مِن ضروب الإيذاء، وفي عديد الأحوال يصعب تقرير أيهما أشدّ، وأكثر تأثيرًا فينا. في فيلم "أي أي" الذي جمع في بطولته ليلى علوي وكمال الشناوي ومحمد عوض وأشرف عبد الباقي؛ يطرق الألمُ أبوابَ الجميع. يقتحم جسدَ الأب ويدفع به دون قصد إلى مؤسسة علاجية فاخرة، ثم يقتحم حياة الابنة بوفاته ومطالبة المستشفى بمبالغ طائلة نظير تسليمها جثته. الفانتازيا التي أخرجها سعيد مرزوق وعرضت بالسينما في أوائل التسعينيات تنتهي نهاية سعيدة؛ لكنها ليست نهاية الألم المعتادة في واقعنا.
***
يفُرِز جسمُ الإنسان موادًا طبيعية تشبه المورفين في تركيبها وأثرها؛ تُسكّن الألمَ وتُزِيله، وتفعل فعيل المُخدر فتعطي شعورًا بالراحةِ والسلام. يأتي الأمر بإفراز الإندورفين مِن العقل؛ إذ ثمَّة مؤثرات تَحضُّ على ضّخّه في مَجرى الدم؛ منها ممارسة الرياضة الشاقة لفترة طويلة، ومنها بالتأكيد الشعور بالألم. لا يقتصر وجود هذه المُسكّنات على الجسم البشريّ وحده فللكائناتِ الحيَّة مثل القطط والكلاب نصيبٌ منها؛ يقيها شرَّ الحياة الصعبة في الشوارع، ويُخفّف مِن أثر الحوادثِ التي تتعرَّض لها.
***
تُشير بعضُ الدراسات العِلميَّة الحديثة إلى أن الأشخاصَ المُهمَشين اجتماعيًا واقتصاديًا أكثر عرضَةً للإصابة بحالات مَرَضِية مصحوبة بالألم، إذا ما قُورنوا بالأشخاصِ الذين يَحيون حياةً طبيعية مُعتدلة؛ خالية مِن الاضطهاد والتهمِيش. تقول الدراسةُ كذلك إن المُهمَّشين لا يتلقَّون الرعايةَ الصِحيَّة المُلائمة التي تُتيح لهم تقييمَ أوجاعهِم وتشخيصِها والتعامل معها بوسائل مناسبة، وهو ما يُضاعِف مِن شدَّتِها ويُجذّرها.
***
القَّهر ألمٌ والظُلم ألمٌ، والقاموسُ الذي يَصِفْهما واسعُ الضِفاف، لا ينتهي بكلمةِ توجع ولا يقف عند حدود أنين، وعلى كل حال؛ تبقى أناتُ المقهورين مَدفونةً في الأحشاء لزَمَن طَويل؛ فإن عَلَت ظلَّت غير مَسمُوعة عند القاهرين، وإن سَمِعوها تجاهلوا وجودَها وتمادوا في مُحاولاتِ إسكاتِها ومَنعِها من إفساد مُتَعِهم. في يوم لا شكَّ آتٍ؛ تتفاقمُ الأوجاع وتتحوَّل الأناتُ إلى صيحاتٍ، وتنتقي مِن قاموسِ الألمِ ما يستوفي المطلوب.