طيلة نصف ساعة أو ما يزيد قليلا، أخذ المتحدث يقرأ على الحضور عشرات العبارات، المقتطعة من روايات لنجيب محفوظ، وفى مقابل كل منها، يذكر آية قرآنية تحمل معنى مشابها أو صياغة قريبة أو لفظة مشتركة. راح يحصيها، وهو يؤكد إن مِن بين هذه الروايات ما يحوى بين ضفتيه أكثر من مائة تعبير لغوى، جيء بها مباشرة من نص القرآن. جعل بعد ذلك يلوم النقاد وأساتذة اللغة الجالسين فى مقاعدهم، على عدم انتباههم مِن قبل لهذا الأمر، عظيم الأهمية والقيمة فى أدب محفوظ. كان عنوان الورقة التى يلقيها هو «لغة نجيب محفوظ فى إفادتها الفنية من لغة القرآن»، أما المناسبة فجلسة من جلسات مؤتمر مَجْمَع اللغة العربية السنوى للعام الجارى.
●●●
منيت نفسى قبل دخول القاعة بمحاضرة شيقة، فيها ما يثير الانتباه ويحرك الفضول، وقد حدث ما تمنيت، لكنه لم يكن فى الإطار المتوقع. فقد انتقل الأمر بعد دقائق من بدايته إلى تناول سلوكيات محفوظ؛ علامات تدينه، ومدى أخلاقية إبداعه، مع تلويح عابر بأن شبابه المبكر شهد حياة معربدة بشكل ما، ثم التأكيد على اعترافه هو شخصيا بها، ولم تلبث الفكرة الأساسية للمحاضرة أن أصبحت موجهة لنفى الاتهامات المشهورة، والمتعلقة بالدين والإيمان عند محفوظ، مقابل الاعتراف بقيمته الإبداعية، وأعترف أنا أيضا إننى لم أكن أتخيل أبدا أن تتخذ الجلسة هذا المسار.
قيل فيما قيل على ألسنة أعضاء المجمع الجالسين على المنصة، ومنهم المعممون، إن نجيب محفوظ كان متدينا «ليس بالمعنى المعروف ولكن على طريقته»، وأشار أحد الأساتذة الكبار بسرور، إلى إن محفوظ اعترف بأنه لم يقرأ كتابا أكثر من مرة سوى القرآن، كما أشار المحاضر نفسه إلى إن محفوظ لم يستوح فقط الأسلوب القرآنى، لكنه لطالما استشهد بالآيات والأحاديث على ألسنة أبطال وبطلات رواياته، ثم راح يكرر بابتسامة ذات معنى ودون مناسبة منطقية، إن الأديب نفسه رفض إعادة نشر رواية «أولاد حارتنا» بعد ما أثارته من لغط.
أدركت بعد قليل أن الهدف من المحاضرة لم يكن متعلقا بتحليل الأسلوب وفصاحته، أو اللغة وجمالياتها وروافدها فقط، بل بإعادة رسم صورة جديدة لنجيب محفوظ ذاته، يمتزج فيها الدين بالإبداع. صورة ذاك الأديب المتدين، الذى لا يدرك هو نفسه أنه متدين، وينتظر من يكتشف فيه صلاحه وتقواه، ويهذب صورته غير المرضى عنها لدى بعض الناس.
●●●
فى ظنى أن تلك الجلسة أثارت محاور متنوعة كانت تستحق نقاشا مطولا، بدا بعضها بديهى لدى قسم من الحضور، لكنه ظل محل جدل قائم بين آخرين، من هذه المحاور بما يرتبط بمعايير تقييم الأدب وهى معايير متعارف عليها بطبيعة الحال، لا تتعلق بسلوك الكاتب، ولا بنمط حياته، لكن الطرح المقدم أظهر أن من الأكاديميين وعلماء اللغة والنقاد، من يسعى إلى ضم مقدار الإيمان الشخصى إلى معايير تقييم العمل الإبداعى. محور آخر كان جديرا بالتوسع فى طرحه، هو مدى مشروعية محاولات البحث عن دلائل تدين الكاتب (وهو أمر شديد الخصوصية) فى مفردات نصه الأدبى، وأظن أن هذا أمر يصعب قبوله على جميع المستويات.
ما خرجت به من انطباع بعد تلك الجلسة، أن ثمة إشكالية لم يتم حلها بعد، خلقتها عدم قدرة بعض المشتغلين بحقل الثقافة والنقد على تجاوز إبداع نجيب محفوظ، وفى الوقت نفسه عدم رضاهم عن صورته الكلية، وبالطبع عن جزء من أعماله، وعلى رأسها رواية «أولاد حارتنا» بما أثارته من ضجة، وبما اعتُبِرَ من قبل الكثيرين خروجا على الدين وتعديا على الذات الإلهية. كانت جلسة مجمع اللغة العربية بمثابة محاولة توفيقية، بين القيمة الإبداعية لأدب نجيب محفوظ التى تجعل من العسير تجاهله أو التسفيه منه، وبين من يفترضون فى أنفسهم أنهم حماة للدين والهوية الثقافية.
أصبحت الحيلة الدفاعية المناسبة أمام تلك الورطة، هى رسم صورة جديدة تلائم الذائقة الدينية، وترضيها، وربما كان التساؤل المسكوت عنه هو كيف يصبح إبداء التقدير تجاه إبداع نجيب محفوظ، مقبولا من الناحية الدينية، وبصياغة أخرى أكثر صراحة؛ كيف يمكن لشخص متدين أن يعجب بفن صدر عن آخر «منفلت» دون أن يؤاخذ على إعجابه؟.
●●●
على كل حال لم يكن من جديد فى أن النص القرآنى جاء باللسان العربى، فاللغة أسبق فى وجودها على النص، ولم يكن بجديد أيضا إن مِن الصياغات والتعبيرات ما هو مشترك بطبيعة الحال بين نصوص متنوعة تستخدم لغة واحدة، وتتفاعل فيما بينها. لم يكن من جديد أن يستخدم كاتب فى روايته تعبير «لا ريب»، وأن يعثر القارئ على التعبير نفسه فى آية قرآنية. الجديد الذى جاءت به جلسة المجمع، هو محاولة تصالحية لإشكالية قديمة، لكنها بدت مفتعلة ولا منطقية.