فى التسعينيات كتب جلال أمين كتابه الأشهر «ماذا حدث للمصريين؟» والذى تناول فيه عملية الحراك الاجتماعى فى مصر من صعود وهبوط للطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة فى ظل الهجرة والانفتاح الاقتصادى. كما رصد فى كتابه كيف تحول شهر رمضان إلى مناسبة للبيع والشراء وكيف أصبحت المسلسلات سمة ثابتة من سمات الشهر. وصل عدد المسلسلات فى شهر رمضان الجارى إلى 20 مسلسلا فى ظل تحقيق معدلات المشاهدة خلال الشهر لأعلى مستوى لها خلال العام.
واليوم تتداول وسائل الإعلام أخبارا عن أجور خرافية للفنانين والفنانات. دائما ما أسأل طلبة الاقتصاد فى الامتحان عن كيف يمكن تطبيق نظرية العرض والطلب لشرح ضخامة أجور الفنانين والفنانات ولاعبى الكرة مقارنة ببقية المشتغلين والمشتغلات؟ هناك سببان رئيسيان يشرحان تلك المسألة. الأول، العرض المحدود من المواهب الاستثنائية أو الهبات الإلهية مثل صوت نادر أو خفة ظل استثنائية أو وسامة شديدة. السبب الثانى، هو سوق واسع جدا من جمهور غفير وملايين المتلقين والمتلقيات يسمح للفنان أو الفنانة بالمطالبة بأجر مرتفع. إذن فإن العرض محدود والطلب هائل يدفع بالأجور لمستوى خرافى.
لكن يتضح لى أن هناك تحولا أو ظاهرة ما حدثت فى السنين الأخيرة دفعت أجور الفنانين والفنانات إلى الطيران إلى مستويات قياسية جديدة أو حالة من الحراك الاجتماعى، مثلما وصفها جلال أمين، دفعت بالفنانين والفنانات إلى قمة المجتمع. تلك الظاهرة أو هذا الحراك الاجتماعى الذى حدث قد يشرح رمى الأموال فى حمام السباحة أو وصف الفنانة حياتها فى المجمع السكانى الفاخر بأنها تعيش فى «بلد تانى». إذا نظرنا إلى الأرقام فى محاولة لعقد مقارنة بين الأجيال المتعاقبة.
فى سنة 1973، أجرى الفنان الكبير/ عبدالحليم حافظ حوارا تليفزيونيا مع التلفزيون الإماراتى وكان يبدو عليه الضيق من المنافسة من النجوم الشباب (هانى شاكر ومحرم فؤاد) وصرح بفخر أن أجره وصل لمستوى مرتفع جدا مقارنة ببقية الفنانين والفنانات وهو 50 ألف جنيه فى فيلم أبى فوق الشجرة فى سنة 1970. لكن كم تساوى اليوم 50 ألف جنيه فى سنة 2021 حتى يمكن عقد مقارنة؟ الحقيقة ليس هذا بالأمر الصعب على الاقتصادى. تشير تقديراتى إلى أن قيمة الـ 50 ألف جنيه فى سنة 1970 تعادل اليوم 9 ملايين و220 ألف جنيه. وإذا عقدنا المقارنة فنجد أن هذا المبلغ يعتبر مبلغا أقل بكثير عن مستوى الأجور الحالى. قد ذكر أحد الفنانين بوضوح تام فى برنامج تلفزيونى أن أجره فى المسلسل الواحد فى رمضان هو 45 مليون جنيه يعنى 5 أضعاف ما حصل عليه أسطورة الموسيقى العربية/ عبدالحليم حافظ.
طالما كان نجوم الفن يحصلون على أجور مرتفعة عن بقية المشتغلين والمشتغلات. لكن الجديد هنا الذى أرصده أن مستويات الأجور والدخول لنجوم الفن (من 30 لـ 50 شخصا) من الجيل الحالى طارت بعيدا عن بقية المجتمع وحتى عن نجوم الفن فى الأجيال التى سبقتهم وفيهم من أكثر منهم موهبة. فإذا فرضنا أن نجوم الفن فى السبعينيات من أغنى 5% فى المجتمع المصرى من حيث الدخول والثروة، فأتوقع أن يكون الجيل الحالى من أغنى 1% أو نصف بالمائة فى المجتمع المصرى. بالتالى قد يكون مفهوم رمى الأموال فى الهواء إذا كانت لا تمثل شيئا يذكر من إجمالى الدخل.
إن التطور فى عدد القنوات التلفزيونية الجديدة والمنصات وانتشار التليفونات الذكية واليوتيوب سمح للجيل الحالى بالانتشار الأوسع والوصول لملايين المشاهدين فى كل مكان وأى وقت. كما حفز الشركات على الدخول بقوة فى مجال الدعاية والإعلان وخصوصا فى شهر رمضان والذى زاد من الطلب على الفنانين والفنانات. كل ذلك سمح لنجوم الفن من زيادة قوتهم الاحتكارية ورفع مستويات دخولهم إلى مستويات غير مسبوقة؛ حيث إن العمل الدارمى والإعلانى يعتمد بالأساس على النجم أو النجمة وتتنافس عليه شركات الإنتاج كما يتنافس الناس فى المزاد.
من المهم هنا التذكير أن فى الاقتصاد، لا يعكس ارتفاع السعر أو الأجر بالضرورة ارتفاع الأهمية عند المجتمع. فكر فى السؤال التالى: من أكثر أهمية للإنسان؛ الماء أم الألماس؟ بالتأكيد الإنسان لا يستطيع العيش بدون الماء وإذا شح الماء يصبح الألماس ليس منه فائدة. رغم ذلك فإن سعر الألماس أضعاف سعر الماء. وهذا ما يعرف بلغز القيمة فى الاقتصاد. لو كان الربح المادى هو الهدف الأول وإن كان للإنسان أن يختار موعد ميلاده، لاختار عبدالحليم حافظ وغيره من الفنانين والفنانات من الأجيال السابقة أن يولد مع الجيل الحالى!