فى سنة 1980 وقف الزعيم الشيوعى أمام الجماهير وهتف فيهم: «هؤلاء الذين ليس لديهم جينات ثورية، هؤلاء الذين ليس لديهم دماء ثورية.. لا نريدهم، لسنا بحاجة إليهم. من يريد أن يرحل فليرحل. الميناء مفتوح! ميناء ماريل مفتوح». هكذا أخبر كاسترو الكوبيين بعد تردى الأوضاع الاقتصادية بكوبا. وبعد هذا الخطاب بدأت موجة من الهجرة الجماعية سميت بهروب ماريل الجماعى. انطلقت من ميناء ماريل إلى الولايات المتحدة الأمريكية آلاف القوارب منها قوارب صيد وقوارب مطاطية لعبور المحيط إلى الولايات المتحدة الأمريكية ومنهم من غرق فى المحيط. قدر عدد المهاجرين فى هروب ماريل الجماعى خلال ستة أشهر بـ 125 ألف كوبى.
عالم الاقتصاد ديفيد كارد الفائز بجائزة نوبل من أيام قليلة (بالتقاسم مع جوشوا انغريست وغويدو إمينز) نظر إلى ذلك الحادث التاريخى بنظرة مختلفة. واكتشف أنها فرصة فريدة لدراسة أثر الهجرة على البطالة والأجور فى أمريكا. حيث إن من الثوابت الاقتصادية والأفكار الشائعة أن الهجرة تخفض من الأجور وترفع البطالة فى البلد المستضيف فى ظل زيادة المعروض من العمالة. ولقد لاحظ ديفيد كارد أن مهاجرى ميناء ماريل تمركزوا بشكل كبير فى مدينة ميامى بالمقارنة مع المدن الأخرى مما تسبب فى رفع حجم قوة العمل فى ميامى بنسبة 7%، وهنا لمعت فى رأسه الفكرة، لدينا مدينة (ميامي) تأثرت بالهجرة بينما المدن قريبة منها وتمر بنفس الظروف الاقتصادية لم تتأثر بالهجرة. فإذن نحن أمام تجربة طبيعية مثل التجارب السريرية التى تجريها شركات الأدوية، مجموعة أخذت اللقاح (المدينة التى تأثرت بالهجرة) ومجموعة أخرى تحت الملاحظة للمقارنة (مدن لم تتأثر بالهجرة). فقرر دراسة البطالة والأجور فى ميامى بالمقارنة بالمدن الملاصقة لها. والنتيجة كانت مفاجأة كبيرة للاقتصاديين، حيث اكتشف أن البطالة والأجور فى ميامى لم تتأثر برغم وصول آلاف المهاجرين إلى ميامى والزيادة الكبيرة فى قوة العمل قليل المهارة. هذه النتيجة اعتبرت كسرا لثوابت اقتصادية راسخة فى علم الاقتصاد.
•••
واحد من أصعب التحديات الذى يواجه علماء الاقتصاد هو عدم قدرتهم على إجراء تجارب علمية مثلما الحال فى علوم الكيمياء أو العقاقير. فإذا رغبنا فى دراسة أثر التعليم على الإنتاجية أو الحصول على فرصة عمل جيدة، فليس بوسعنا تقسيم الناس إلى مجموعتين: مجموعة فى غرفة تحصل على التعليم ومجموعة فى غرفة أخرى تكون تحت الملاحظة ولا تحصل على تعليم. ومن هنا اعتمد علماء الاقتصاد الجدد على التجربة الطبيعية وهى المواقف التى تقدم فيها تقلبات التاريخ شيئًا قريبًا من نوع التجارب المنضبطة التى قد يرغب الباحثون فى إجرائها ولكن لا يمكنهم ذلك.
إن مبدأ التجربة الطبيعية والذى حصل بفضله الثلاثى على جائزة نوبل وأثر على جيل كامل من طلبة الاقتصاد فى آخر 20 سنة (وأنا منهم) سمح للجيل الجديد من علماء الاقتصاد بتحدى أفكار نظرية راسخة فى علم الاقتصاد تتدارس كحقائق ثابتة لا تقبل التشكيك. خذ كمثال على ذلك الحد الأدنى للأجور. واحدة من الأفكار المستقرة فى علم الاقتصاد أن حدا أدنى للأجور يؤذى سوق العمل حيث إنه يرفع من تكلفة العمالة ولا يشجع على التوظيف وبالتالى ترتفع البطالة. فى التسعينيات قام عالم الاقتصاد آلان كروجر (انتحر فى 2019) وديفيد كارد باستغلال تجربة طبيعية أخرى لدراسة رفع قيمة الحد الأدنى للأجور على بطالة فى نيوجيرسى، حيث استغل العالمان فرصة رفع الحد الأدنى للأجور على نيوجيرسى بينما لم يطبق فى المدينة الملاصقة لنيوجيرسى (بنسلفانيا) حيث قارن العالمان وضع سوق العمل فى نيوجيرسى وبنسلفانيا قبل وبعد رفع الحد الأدنى للأجور. كانت المفاجأة أن تطبيق الحد الأدنى للأجور لم يرفع البطالة فى نيوجيرسى كما تتوقع النظرية الاقتصادية الكلاسيكية ولكن انعكس فى زيادة الأسعار. إن تلك النتيجة كانت بلا شك تمثل اختراقا فى علم الاقتصاد وتحديا للنظريات الكلاسيكية. من المهم التذكير هنا أن مصر ستطبق حدا أدنى للأجور على القطاع الخاص مع بداية العام الجديد.
•••
ونحن أيضا فى المنطقة استفدنا من التجارب الطبيعية. على سبيل المثال، قام الزملاء فى منتدى البحوث الاقتصادية: بلال فالح وكارولين كرافت وجاكلين وهبة باستعمال تجربة طبيعية لدراسة أثر هجرة اللاجئين السوريين على سوق العمل الأردنية وعلى أرقام البطالة والأجور. قام الباحثون بتقسيم الأردن إلى مناطق: مناطق قريبة من الحدود السورية الأردنية ونزح إليها عدد كبير من السوريين ومناطق بعيدة عن الحدود السورية ولم تتأثر بالنزوح السورى. من ثم تمكنوا من مقارنة أوضاع سوق العمل الأردنية قبل وبعد الأزمة السورية فى المناطق المختلفة حسب كثافة الهجرة إليها. مثلما الحالة فى دراسة كارد، اكتشف الزملاء بأن سوق العمل الأردنية لم تتأثر بشكل سلبى بعد وصول اللاجئين السوريين للأردن.
كما أعلم أن هناك عددا كبيرا من الجيل الجديد من علماء الاقتصاد المصريين والعرب متأثر بالتجارب الطبيعية وبأفكار ثلاثى جائزة نوبل وأن هناك أبحاثا جديدة ممتازة فى طور التجهيز وستغتنم التجارب الطبيعية التى ظهرت خلال كورونا للإجابة على أسئلة اقتصادية رئيسية. والمؤسف فى رأيى هو تعامل القنوات التلفزيونية العربية وخصوصا الاقتصادية منها مع الحدث فهى مشغولة يوميا بعالم البورصات وأسعار البترول والذهب. كأن المواطنين العرب مشغولون ما بين الاستثمار فى وول ستريت أم بالذهب. للأسف لقد فشلت فى إيجاد برنامج عربى واحد يناقش أو يشرح لماذا فاز الثلاثى بجائزة نوبل؟ أو ما هى إسهاماتهم؟ كيف صنعوا ثورة فى علم الاقتصاد؟ فقط ترديد للخبر بشكل سطحى وجاف.