أستيقظ معظم الأيام وقت شروق الشمس. أتأرجح بين الليل والنهار لثوانٍ ثم أقرر أننى كائن نهارى أتجه دوما نحو الشمس وأفضل النور على الظلمة. أنفض عنى عفاريت الليل وأنظم يومى على إيقاع تنفس ابنتى التى اندست فى السرير أثناء نومى. إيقاعها هادئ ومطمئن، جسدها يلتصق بى ووجهها مستكين على الوسادة قربى.
• • •
فى لحظات الوعى الأولى بعد النوم يكون العالم شديد الوضوح أمامى والسؤال الذى يظهر لى كل صباح لا يتغير: إن كانت هذه السنة هى الأخيرة لى فى الحياة، كيف أريد أن أمضيها؟ أمامى 365 يوما لن يتكرروا، ما الذى أريد أن أملأهم به؟ من الأسهل أن أعتمد على ما أعرفه وأستمر بأيامى كما هى: العمل وساعاته الطويلة ومشاحناته التى لا تنتهى، العائلة والنظام اليومى الذى يفرض نفسه بحكم أننى أم ولأطفالى جداول تحكمها ساعات الدراسة ومواعيد الأطباء.
• • •
فى الأيام الماضية، اجتاحنى شوق يصعب وصفه إلى بداية علاقتى مع القاهرة، حين جئتها فى أول حياتى المهنية ورأيت فيها كل أحلام المدينة الكبيرة من زخم النقاشات وبهجة اللقاءات وكمية الإنتاج الثقافى والفنى ووفرة الأصدقاء وتنوعهم. فى شدة هذا الشوق صرت أفصل نفسى عما حولى اليوم وأعود إلى شوارع كثيرا ما سرت فيها على الأقدام فى تلك الأيام سواء فى طريقى إلى العمل أو للقاء أصدقاء ما زالوا اليوم من أقرب الناس إلى. هى أيام لن تعود وها أنا أعود إليها فى قلبى بشكل تخترقنى فيه رائحة الشارع ومدخل العمارة التى كنت أعيش فيها، أتذكر وجوها كنت ألتقيها فى مشاويرى اليومية وأتساءل عما حدث لأصحابها.
• • •
بداية علاقتى مع القاهرة كان فيها بدايات أخرى: بداية حياتى بعيدا عن دمشق، وبعيدا عن عائلتى، بداية علاقتى بمن سيصبح زوجى فيما بعد، أول الحب وأول الطريق معا، أول تصور لنفسى كسيدة عجوز تمشى ببطء وتسلم على بائع الورد الذى تقدم بالعمر هو الآخر ومازالت تشترى منه بهجة وألوان كل أسبوع تخفف من شعورها بالوحدة بعد أن رحل أولادها. هكذا بدأت علاقتى بالقاهرة وكانت منذ يومها الأول طويلة الأمد، حتى قبل أن أرتبط بها من خلال زواجى برجل مصرى.
• • •
أتابع أخبار الأصدقاء والمدن التى أحبها من خلال مواقع التواصل الاجتماعى، أشعر أننى مازلت معهم مع أننى أقرب الشاشة من وجهى لأتمعن بوجوههم التى تكتسب، كما يكتسب وجهى، ملامح السنين وتجاربها. لو كانت هذه آخر سنة لى فى الحياة، فمن هم الأصدقاء الأحب إلى قلبى والذين أريدهم معى كل يوم؟ هذا تمرين صعب لأنه يجبرنى على وضع أولويات فى قلبى، مثلا أن أرتب الأصدقاء بحيث أمضى ساعات معهم عند الغروب نتحدث عن أمور مضت وأحداث تتطور من حولنا. أو أن أزور مدينة أعرف فيها ناسا كثيرين لكنى أختار أن أمد فناجين القهوة مع صديق بعينه فقصصه تعرف طريقها إلى قلبى ولم أعد أحتاج أن أقسم وقتى على أصدقاء آخرين حين أكون برفقته.
• • •
فى الحقيقة، لن يتكرر أى يوم مرة ثانية، سواء بجماله أو بصعوبته. كل يوم هو الأخير، وما يأتى بعده يكون مختلفا وليس تكرارا. يكمن التحدى إذا فى محاولة البقاء فى الحاضر، التركيز فى هذا اليوم وليس غيره، التحدى هو أن أتوقف عن التخطيط طويل الأمد وعن تخيل نفسى فى عمر متقدم. التحدى هو أننى هنا اليوم، وأنا محاطة بأحداث وألوان وروائح وعواطف وشجارات يجب أن أتعامل معها، العالم يستمر بفرض الأحداث وأنا أتفاعل معها وأستجيب لبعض الطلبات ثم أطلب المساعدة وأضع رأسى على كتف صديقة حين أحتاج. اليوم أريد أن أكون فى منزل والدى، أريد أن أعود بلحظة إلى غرفة الجلوس بعد الظهر، أمسك كوب الشاى الذى تعطينى إياه أمى وأنا أتعفف فأنا أفضل القهوة لكن طقس الشاى بعد الظهر فى بيت والدى مقدس.
• • •
كل سنة هى السنة الأخيرة، أو هكذا أريد أن أتعامل مع الوقت، أريد أن تتغير علاقتى بالزمن فلا أخاف من مروره على روحى وعلى وجهى، ولا أخاف إن توقف ورمانى على الطرف الآخر من الحياة. كل سنة هى السنة الأخيرة لى لذا فسوف أمضيها مع من أحب، سوف أخرج من السباق وأقف مع الجمهور إذ لم أعد مهتمة أن أصل قبل الآخرين. أقف هنا بين من أحب نراقب السباق ونعلق أو نسكت، لا يهم. نحن هنا معا، جماعة قررت أن فى الحياة ما يستحق أن نتوقف أمامه لنتأمله ونتفقد أنفسنا فنجدنا نحب أن نكون معا هنا، نضع رءوسنا على أكتاف بعضنا البعض حين نحتاج. هكذا تمر سنوات وأنا أعتبر كل سنة هى الأخيرة فأتمدد على أيامها ولا أسابق من حولى. أنا هنا لأن فى يومى الأخير على الأرض، الذى يمكن أن يكون أى يوم، أريد أن أجلس أمام الشمس وقت شروقها وأدعو اللون البرتقالى أن يجتاحنى ويؤكد لى أن يومى الأخير سيكون الأجمل.