ــ 1 ــ
المصادفة وحدها هى التى قادتنى إلى مشاهدة هذه الحلقة التاريخية (وأنا أعى تماما استخدام وصف تاريخية فى هذا المقام) من برنامج «أمسية ثقافية» اجتمع فيها ثلاثة شعراء كبار؛ أمل دنقل وعبدالرحمن الأبنودى، وفاروق شوشة. وهى واحدة من مباهج (ماسبيرو زمان) وكنوزها التى تتحفنا بها من آن لآخر.
وكل من أسعده حظه بمشاهدة هذه الحلقة الرائعة من «أمسية ثقافية» سيجابه شاعرين كبيرين، مبدعين، أصيلين؛ يحاورهما شاعر وإعلامى وإذاعى مثقف وواع وقارئ ممتاز لشعر المبدعين؛ أحدهما امتلك زمام وروح القصيدة المعاصرة، وهو أمل دنقل الذى يبدو فى حديثه مذهلا فى تكوينه ومنابع ثقافته، ونضج تصوراته الفنية والشعرية، وبراعته التعبيرية عن هذه التصورات (ولم يكن غريبا أبدا أن ينفى عن نفسه صفة الشاعر السياسى، ولا يستنكف صفة الوطنى).
ورغم أننى شاهدت هذه الحلقة أكثر من مرة ــ وفى كل مرة تزداد دهشتى وإعجابى ومحبتى للكبار ــ فإننى هذه المرة اكتشفت فوق المتعة والوعى والشاعرية، اكتشفت عمق وقيمة أن يكون المبدع مثقفا وممتلكا لتصوراته النظرية عن الفن والإبداع والشعر.. حداثة الرؤية وتمردها على التقليد والمألوف، واحترام الموروث واستلهامه دون الوقوع فى أسره أو السقوط بين براثنه؛ خصوصا عندما نضع فى اعتبارنا الخاصية النوعية للإبداع من حيث هو فعل تعرف ومعرفة للكاتب قبل أن يكون فعل تعرف ومعرفة للقارئ.
ــ 2 ــ
وكان من توافقات الصدفة أيضا أن تحل الذكرى الأربعون لرحيل أمل دنقل (1940ــ1983) فى هذه الأيام فقد رحل عنا فى 21 من مايو سنة 1983. وهو واحد من أنبغ شعراء الستينيات فى مصر، فالمكانة التى يحتلها فى تاريخ الشعر العربى المعاصر، والتى ترتبط بالإنجاز الذى حققه على المستوى الإبداعى، تجعل منه واحدا من أبرز الشعراء العرب المعاصرين. ولا تُحتسب المكانة، فى هذا السياق، بالكم الشعرى الذى كتبه الشاعر، أو الدواوين التى أصدرها (أعماله الكاملة صدرت فى مجلد واحد يضم الدواوين التى أصدرها فى حياته، وعددها أربعة دواوين، بالإضافة إلى ديوانين آخرين صدرا بعد وفاته).
فى عام 1966 نشر أمل دنقل قصيدته «الأرض والجرح الذى لا ينفتح»، التى تنبأ فيها بهزيمة 1967 قبل حدوثها، وبعد حدوث الكارثة بأيام قليلة كتب قصيدته الأشهر «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» التى كانت وثيقة اعتماده «شاعر الهم القومى الأول» كما يصفه الناقد الراحل على عشرى زايد، حيث عرَّى فى هذه القصيدة، بأسلوب شعرى فذ، وبجرأة غير مسبوقة، العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية التى أفرزت الكارثة من خلال بناء شعرى متفرد. ومنذ ذلك الحين أصبح الهم القومى بكل أبعاده قضيته الأولى والمحور الأساسى لشعره كله.
وقد تعددت ينابيع ثقافة أمل وروافد تكوينه، وإن غلب عليها التراث العربى والإسلامى الذى استطاع أن يوظفه ببراعة لا تُبارى فى تشكيل رؤيته الشعرية، ولم يحل استغراقه فى هذا التراث دون انفتاحه على الثقافة العالمية من خلال الترجمات والكتابات العربية للنقاد والمفكرين المتخصصين التى كانت نوافذ واسعة أطل منها جيل أمل كله، ممن لا يجيد لغة أجنبية، على هذه الثقافات. وكان أمل قارئا نهما حتى إنه انقطع عن كتابة الشعر لمدة ثلاثة أعوام ابتداء من عام 1962 ليعكف على القراءة المتعمقة والتعرف على مختلف التيارات الأدبية والفكرية والسياسية العالمية.
ــ 3 ــ
أما الأبنودى حامل لواء شعر العامية، فرغم عفويته وبساطته واعتداده بجذوره الصعيدية وموروثه الشفاهى، فإنه يمتلك رؤية حداثية ناضجة تعى جوهر القول الشعرى، وجوهر خلق الصورة الشعرية، وخصوصية اللغة الشعرية..
ومهما كان الاختلاف حول بعض آرائه أو مواقفه، فى نظر البعض، يبقى «الأبنودى» مجنون الشعر ومبدعه، أعاد الشعر إلى سيرته الأولى يُلقى على أسماع الناس فيطربون ويهشون ويصيحون «الله»، فهو الشاعر والمنشد والمؤدى معا.. كتب القصائد والأغانى التى حفظناها عن ظهر قلب، تغنينا بها ونستعيدها كلما عنّ لنا سبب أو عرض عارض فهاج الذاكرة وحرك أمواجها واستدعى ما كنّ فى دواليبها المطمورة..
من طينة فؤاد حداد وصلاح جاهين انعجنت موهبته وشق طريقه، أكثر من خمسة عقود يصدح ويسطر سيرته الشعرية الكبرى نواتها أبنود وأبطالها «فاطنة» و«حراجى القط» و«أحمد سماعين» وآخرون.. وفى هذه الحلقة كان الأبنودى يعلم أنه برفقة شاعر كبير ومثقف كبير بقيمة أمل دنقل، وأنه إذا لم يكن فى كامل تركيزه واحتشاده المعرفى والنظرى فلن يصمد! لكنه صمد وكان رأسا برأس وكتفا بكتف!
ــ 4 ــ
هذا حوار عظيم، والشاعران الكبيران أمل دنقل وعبدالرحمن الأبنودى كان لديهما حس نقدى مدهش، ووعى كامل بنظرية الشعر والفن عموما. لقد حفظت لنا هذه الحلقة «التاريخية» كنزا مدهشا لا يقدر بمال.