تَـــعاوُن - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:13 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تَـــعاوُن

نشر فى : الجمعة 27 أغسطس 2021 - 7:55 م | آخر تحديث : الجمعة 27 أغسطس 2021 - 7:55 م
طارت قبعتي وأنا أعدو لعبور الطريق الشاسع؛ فارتبكت لثانية ثم أكملت العدوَ إلى أن نجوتَ واستقر بي المقامُ على البرِّ الآخر، فجعلت أتلفَّت باحثةً عنها والشمس تأكلُ رأسي. رأيتها وقد قبعت على الأسفلت في منتصف المسافة بين الضفتين؛ حيث العودة لالتقاطها بمنزلةِ عملٍ انتحاريّ، لا تتعدى احتمالاتُ نجاحه واحدًا بالمائة؛ فالعربات تمرق مِن أمامي تكاد تطير؛ لا يتأنى سائقٌ ولا يتلطَّف آخر بتهدئة سرعته.
•••
سمعت نداءً عاليًا: "ثانية يا كابتن.."، نظرت حولي فإذا بالمُنادي رجل على دراجة نارية، قادم مِن الاتجاه المقابل، حاملًا خلفه الصندوقَ الشهير الذي تصل فيه الطلباتُ ساخنةً شهية. انتظرت مكاني ولم تكُن في نيتي المخاطرةُ وإن لم ينادنِي أحد؛ لأفاجأ به يقفز من فوق الجزيرةِ الضيقة التي تفصل اتجاهيّ الذهاب والإياب، ويدور دورةً كاملةً بعرض الشارع، ويضغط مكابحَه مُجبِرًا السياراتِ المُسرعة على التوقُّف، ثم ينحني كما الفارس المُتمرس على صهوةِ جواده؛ منتشلًا القبعةَ بيد واحدة، بينما الأخرى تقبض على المقود، وأخيرًا يدور دورة نهائية ويناولني قبعتي سليمةً مِن كل سوء.
•••
شكرته ممتنة، سعيدة، لا أصدق استعادتها بهذه السهولة؛ وقد كدت أستسلم لما جرى وأستأنف طريقي تاركةً القبعة لمصيرها، العمر ليس رخيصًا كي أخترق الحاراتِ الستِ مرةً ثانية، والقبعةُ لن تغنيني شيئًا ما صدمتني عربةٌ لا تردعها إشارةٌ ولا تصدها خطوطُ عبورِ المُشاه.
•••
لم يكُن مِقدار التعاون الذي أبداه الرجلُ بمستغرب ولا نادر. كثير الناسِ يتطوعون بخدمةٍ أو مشورة، وأحيانًا بعملٍ أهوج يساعدون به مَن أعيته الحيلة، ووجد نفسَه في مأزقٍ لا خروج منه بجهدٍ فردي. تتجلى مظاهر التآزر ما حلَّت أزمةٌ أو مصيبة؛ غطَّت الأمطار الشوارعَ وابتلعت السياراتِ، انكسرت مواسير الصرفِ ودخلت مُحتوياتُها البيوت، قفزت حافلةٌ في ترعة أو خرج قطار عن المَسار أو أمسكت به النيران. في أغلب المواقفِ العصيبة؛ يظهر مَن يساعد ومَن يبدي تعاونًا مبهرًا؛ رغم أنه ليس مسئولًا ولا ناقة له في الأمر ولا جمَل. لا ينتظر مكافأةً ولا يطمع في تقديرٍ أو عرفان؛ بل يكفيه شعور داخليٌّ بالرضاء، أما المسئول الحقيقيّ فيختفي ويتنصَّل من مسئوليته ثم يخرج بتصريحات تدين آخرين.
•••
أحيانًا ما يسفر التعاون غير مَحسوب العواقب عن مُفاقمة الحال؛ محاولة إسعافِ مُصاب قد تزيد الضرر وتضاعِف الإصابةَ، مَسعى لإنقاذ غريقٍ من دوامات بحر هائج قد ينتج عنه ابتلاع المُنقِذ نفسه، بيارة صرف صحيّ تخنق عاملًا فيقفز في أثره زميلٌ ثم ثانٍ وثالث، لا يخرج منهم أحد ليروي عن بؤس ما بعده بؤس، أو عن قهر تنوء به الأكتاف ويُزكِم الأنوف. قد يأتي التعاون بعض الأحيان بما لا تشتهيه السفن.
•••
أكملت طريقي أتمثل الكلمةَ ومُجسَّداتها. كثيرًا ما مررت بمحطةِ وقود التعاون فأدركتها بسيطة متواضعة؛ فإذا هي اليوم قد اكتست بثوبٍ جديد لامع، واكتظت بمحالٍ لبيع الوجبات السريعة، وافتتحت فيها أفرع لسلاسل شهيرة. مرَّت بذهني أيضا الجمعيةُ التعاونية؛ تلك التي طالما خَدَمَت مَن رقَّت بهم الحالُ، ومَن آثروا السلامةَ ولجأوا لاستهلاك بضائع مَدعومة ذات جودة متوسطة؛ فإذا هي الآن تتداول الفواكهَ المُستوردة والخضروات النادرة بأثمان تضاهي المَتاجر الكبرى. أما عن مجلس التعاون العربي؛ فحكايةٌ يائسةٌ قصيرة العمر، انتهت بمُجرد ولادتها ولا مجال للاستفاضة حولها؛ لكنها مثلت على أي حال تجليًا للكلمةِ ذات المغزى والتاريخ: "التعاون".
•••
وضعت القبعةَ على رأسي أحميها مِن هَجير الشمس، وأتلمس لعينيّ العاريتين من حمايةِ نظارة؛ ظلًا خفيفًا يهدئ الوهج الذي كاد يفقدني الرؤية. أنهيت الغرض الذي من أجله أتيت المنطقة، وأبصرت بين مُحاولاتي العودة للسيارة مَطعمًا يرفع لافتةً خشبيةً عتيقة تحمل كلمة واحدة: "التعاون"؛ وقد تراصَّت أمامه مناضد مَعدنية صغيرة وبضعةُ مقاعد، فيما تعاون البشر الواقفون في الصفِّ؛ يمرر أحدهم ورقةَ الطلبات لزميله، ويأتي المتقدمون مَن تراجع إلى الخلف بكيس السندوتشات والمخلل خاصته.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات