الزيارة الأولى لبعض الأمكنة قد تترك فى المرء انطباعا يدوم، يلتصق بالذهن لفترة طويلة وربما لا يبارحه أبدا. يكون هذا الانطباع فى أغلب الأحيان هو الأكثر صدقا من كل الأحاديث.
بانوراما أكتوبر: السور والمبنى المستدير, الذى يطل أنيقا على أهم شوارع القاهرة، أحد الأمكنة التى خلفت زيارتها فى نفسى انطباعات ومشاعر كثيرة أعتقد أنها قد أصابت عداء الكثيرين.
لا أدرى إن كان ما شاهدته هناك هو استثناء أو أن البانوراما العسكرية صارت تزاول أنشطة أخرى غير التى عرفناها أو التى يمكن توقعها. سواء كان هذا أو ذاك فقد داهمنى داخلها شعور غريب بالانكسار.
بعد الولوج من البوابة الحديدية صادفت، كما كل الزائرين مجموعة من الخيام الملونة بالأزرق والأبيض، تزدحم بأصناف من الأطعمة والمنتجات الغذائية: علب جبن أبيض، صفائح سمن، وكراتين بيض، بينما الدبابات تقف فى خجل هنا وهناك. فوق كل خيمة لافتة كبيرة ملونة مدون عليها عنوان ما: «شركة مكرونة كوين».. «مجمع إنتاج البيض المتكامل».. «مصنع إنتاج المشمعات البلاستيك». كانت هناك كذلك خيمة تصطف أمامها علب مبيد حشرى، وأخيرا يافطة ضخمة تحتل الجهة المقابلة كتب عليها «جهاز مشروعات الخدمة الوطنية».
كى يكتمل المشهد فإن ثمة عربة كانت تبيع الفشار وتنثره على الأرض فى كل مكان، إضافة إلى دكاكين صغيرة ممتلئة بالشيبسى والسندوتشات والعصائر يحاول أصحابها جذب الزوار للشراء، وبمحازاتها رجل ممتلئ يجلس أمام لوح معدنى أحمر يحمل صورا لوجوه صغيرة ملونة: ولد على هيئة مهرج وبنت على هيئة قطة، والأطفال يروحون ويجيئون من أمامه ويطلبون منه تلوين وجوههم لقاء مبلغ من المال، بينما يتقافز آخرون فوق الدبابات ويوظفونها فى ألعابهم. تصورت للحظات أننى سوف أقابل المراجيح الدوارة وألعاب النيشان والرجل الذى ينفخ نارا.
وسط الهرج والضجيج يفقد الزائر تدريجيا كل ما استدعاه من ذاكرته عن حرب أكتوبر، ووسط روائح الطعام تتبخر رغبته فى الشعور بالزهو ولو لدقائق قليلة قبل أن يغادر المكان. يخالجه إحساس قوى بأنه قد جاء خطأ إلى أحد الأسواق الشعبية حيث المعروضات المخفضة الأسعار ونداءات الباعة وأكواب الحمص الشامى فى أيدى الجميع. انطباع بأنه ينبغى أن يغادر المكان وأن يحتفظ فى مخيلته بما تبقى دون تشويه.
ترى هل من شك فى أن الهدف من إنشاء الحدائق هو الترفيه وممارسة أشكال من التعارف والتفاعل الاجتماعي، وأن الهدف من إقامة الأسواق التجارية هو ترويج السلع والبضائع وسط اكبر عدد من الناس؟ إذا لم يكن هناك شك فإن القادم يدرك سريعا أن حرب أكتوبر قد تحولت على أفضل تقدير إلى مجمع استهلاكى كبير.
إذا ظل الزائر محتفظا ببصيرته فلابد وأن يتساءل ــ حتى وإن اتُّهِمَ بالسذاجة ــ عن جدوى وجود الأسلحة والمدرعات المعروضة فى المكان، وإذا ظل صامدا طوال جولته فإنه سوف يخرج إما حزينا ساخطا أو مُستبشرا مُبتَهِجا ومُحَمَّلا بالأطعمة والمأكولات.
هل تدعو المشاهد السابقة للدهشة؟ أعتقد أنها تعدو للتأمل بشكل أكبر، فما يحدث داخل بانوراما حرب أكتوبر هو مجرد انعكاس لما يجرى خارجها: صورة واقعية مصغرة من صور التشوش الذى أصابنا. صارت الدبابة تستوى لدينا وأكياس المكرونة، نضع انتصارنا فى كفة واحدة مع زجاجات الزيت. نجمع بين ما يستحيل الجمع بينه دون أن يستدعى الأمر شيئا من الاستنكار.
كثيرا ما تختلط الامور علينا فنصفق طربا لفعل، أقل ما يوصف به أنه مهين. ربما هو الخواء الداخلى وغياب المعانى الحقيقية للأشياء. فى أكتوبر من كل عام نستمع إلى الأغنيات الحماسية ونتابع أفلام البطولات ويذهب أطفالنا إلى البانوراما فى رحلات مدرسية، ومع كل هذا تتلاشى تدريجيا قدرتنا على إحراز أى نجاح.
حين يحقق المرء نصرا ولو صغيرا يصبح من الطبيعى أن يحتفى به وأن يحيطه بكثير من الفخر والتباهي، بل وربما يبالغ بعض الشىء فيصنع منه حدثا أكبر وأعظم مما حققه على أرض الواقع، ثم ــ وهو الأهم ــ يبنى عليه نصرا جديدا. حين يقتصر الأمر على الاحتفاء دون إنجاز آخر فإن النصر الوحيد يفقد بريقه بمرور الوقت ويتضاءل شيئا فشىء حتى يختفى، وتحل محله مظاهر ممجوجة وزائفة، تجد من يفسح لها المكان ومن يرحب بها.
صناعة الانتصار فن وتحويله إلى هزيمة فن آخر.