حين وضعت التليفون على أذنى، جاء صوت يطلب منى فى عجالة ودون إضاعة الوقت، تحليلا نفسيا لشخصية أحد لاعبى كرة القدم، المشهورين بكثرة المشاكل والأزمات. لم يكن هذا الطلب هو الأول من نوعه كما لم يكن أبدا الأخير، تلقيت على مدى السنة ومازالت اتصالات كثيرة من هذا النوع، وفى أغلب الأحوال كنت أعتذر بلباقة، وفى مرات قليلة حاولت أن أبرر رفضى فلم يلق تبريرى قبولا لدى المتصلين.
الفكرة شيقة ومثيرة ولا شك أنها جاذبة للقارئ، لكن مصطلح «التحليل النفسى» على الجانب الآخر، قد أسىء استخدامه بشكل واضح، يعرف المتخصصون وكثير من المطلعين والمهتمين، أن التحليل النفسى هو أحد المدارس الشهيرة فى علم النفس، التى تقوم على قواعد وأسس محددة، وضعها طبيب الأعصاب الأكثر شهرة سيجموند فرويد، ورغم أن الزمن قد تجاوز بعضا من أفكاره بمسافات واسعة، وأخضع أغلبها للمراجعة والتعديل، إلا أنها مازالت من أهم المدارس التى يشار إليها، كما يشار إلى صاحبها بفائض من الاحترام والتقدير، وعملية التحليل النفسى تلك تتطلب وقتا طويلا، ومعطيات متنوعة عن الشخص المقصود بها، لذلك يصعب جدا أن نتحدث عن تحليل نفسى لأى إنسان لم نقابله وجها لوجه، ولم ندرس تاريخه، ولم نقم معه حوارا، يصعب جدا أن يضجع شخص فى مقعده، ليقوم بتحليل نفسى لشخصية آخر، ربما لم يره إلا على شاشات التلفزيون، ولم يقرأ عنه شيئا، فإذا فعل، صار من الأوفق أن نطلق على الأمر «انطباعات سريعة» بدلا من «تحليل نفسى».
يخضع المتنافسون على الانتخابات فى الدول الغربية إلى الكثير من التحليلات والانتقادات، وقد يمكن التعليق على شكل ونوعية الملابس التى يختارونها، ولغة الجسد التى يستخدمونها، والتعبيرات التى ترتسم على وجوههم وملامحهم، وردود أفعالهم التلقائية فى بعض المواقف الحاسمة أو المحرجة، يمكن أيضا أن يصف المتخصصون حالة آنية من القلق والتوتر أو المزاج السىء أو الاكتئاب تنتابهم، لكنى لا أذكر أن أحدا قد ادعى دون دراسة محققة، أنه قادر على تقديم «تحليل نفسى» لشخصية هذا المرشح أو ذاك.
اعتاد الأطباء النفسيون طيلة عقود سابقة على أن يقابلهم المجتمع بالتوجس والخوف والإقصاء، وأحيانا بالسخرية والاستهزاء وإطلاق النكات، الصورة النمطية العالقة فى الأذهان، هى لذلك المعالج، أشعث الشعر، منفلت المظهر، الذى يجلس أمام سرير أو «شيزلونج»، ويطلب من المريض النائم أمامه أن يسرد عليه أحداث طفولته، بينما يأتى بتصرفات وإيماءات غريبة، ترشحه لأن يكون هو الآخر مريضا.
تغيرت تلك الصورة بشكل ما فى السنة الماضية، فصار علم النفس والطب النفسى و«التحليل النفسى» ــ تجاوزا ــ، أحد أهم الأشياء التى يتناولها المجتمع ويبحث عنها بملقط، صارت الصحف تطالعنا بحوارات ومقالات تحلل نفسيا شخصية هذا أو ذاك، وتضعها تحت المجهر، وتبنى عليها استنتاجات بل وتطلق أحكاما قاطعة تجاه ضحاياها، وقد تحول الأمر للأسف الشديد إلى هوس لا يتوقف، انتقل من خانة الغموض والندرة ليصبح حديثا يوميا، ثم ليصبح حديثا استهلاكيا وأحيانا مبتذلا، وقد بات المتخصصون فيه نجوما لامعين، وضيوفا لا تخلو منهم البرامج الحوارية والاستوديوهات، وهو أمر فى مجمله جيد، يصب فى مسار تحطيم الوصمة، التى أحاطت بكل ما يتعلق بالطب النفسى لقرون، لكن بعض هؤلاء النجوم انجرف تحت ضغط الإعلام وبريقه، وفى ظل الإلحاح المستمر، إلى تقديم صورة مشوهة وغير حقيقية عن الأمر، حتى صدق الناس أن كل شيء وشخص قابل للتنقيب والتحليل النفسى بمجرد رؤيته من بعيد، ليصبح الطبيب أو المعالج بمثابة الساحر أو ضارب الودع. هكذا لم نتمكن من الوقوف فى المنتصف، استبدلنا بالنفور والنبذ المجتمعى إطارا آخر، لكنه شديد السطحية والتفاهة.
ربما تكون هناك حاجة حقيقية إلى بعض الترشيد، وإلى شىء من التروى، سواء من قبل السائل أو المسئول، حتى لا يفقد الأمر معناه، منذ شهرين تقريبا، مازحتنى إحدى الصديقات وهى تعمل كطبيبة نفسية، لكثرة وغرابة ما تلقته من أسئلة فى الآونة الأخيرة، قالت أنها صارت تخشى أن يطلب منها تحليل شخصية القطط، التى تمشى أسفل العربات المتوقفة إلى جانب الأرصفة، وهل يعنى هذا أنها فاقدة للثقة فى نفسها؟.
أظن أن ثمة فرصة هنا قد خلقت نفسها بنفسها، ودعمتها الظروف السياسية والاجتماعية التى نمر بها، انفتحت ثغرة فى الجدار العالى الذى كان قائما بين المجتمع بمختلف طبقاته وفئاته، وبين كل ما يتعلق بالطب النفسى، ولا يجدر بنا إلا التعامل معها بشىء من الحنكة والمهارة، واستغلالها من أجل تجاوز المفاهيم القديمة المزرية، وإحلالها بأخرى أكثر نبلا واحتراما للناس.