تحتفل البقية المتبقية المؤمنة بالربيع العربى بيوم من أيامها التاريخية المصيرية المباركة، إنها الانتخابات التونسية التى بنجاحها تحصل تونس على شهادة النجاة من نفسها «الأمّارة بالسوء»، التى وسوست لها غير مرة أن الديمقراطية فتنة، والعهد القديم بعجره وبجره هو الاستقرار، ومن أعداء الربيع العربى المرعوبين من سنن التغيير، الذين ما فتئوا يحفرون لها الكمائن لتتعثر، بل الأفضل لهم أن تنتكس تماماً وتعود سيرتها الأولى منتظمة فى عهود الاستبداد المملوكى العربى الذى استقر بيننا ألف عام ونيف حتى حسبنا أنه الأصل وأنه قدر الله وحكمته علينا، فانفجرت مسيرة التغيير علينا أجمعين من بلد مجهول لغالب العرب وسط تونس فى ديسمبر 2010، فأصبح ذلك التاريخ ولادة جديدة لنا ومن سيدى بوزيد محجاً للمؤمنين بتلك اللحظة التاريخية ومقاصدها.
نجاح الربيع العربى فى تونس يؤكد أن ما حصل فيها قبل أربعة أعوام لم يكن حدثاً عارضاً وإنما حتمية تاريخية لا بد أن تنتصر لمن فَقُهَ علم التاريخ وسننه، من المؤمنين أنه السبيل الوحيد لإنقاذ العرب من مصيرهم المحتوم إذا ما بقيت اختياراتهم قاصرة على «داعش» أو الاستبداد. ما يحصل بجوار تونس، فى ليبيا، ثم مصر فاليمن، وما هو أدهى وأمر فى العراق وسورية، يؤكد أن المسار التونسى هو الصحيح، حيث الاحتكام للديمقراطية وأدواتها، ومن أبى فمصير بلاده الفتنة وانقسام المجتمع والاستقطاب وبث الكراهية بين أهل البلد الواحد، بل حتى الحرب والهلاك.
سيتابع كثيرون صور التوانسة وهم يدلون بأصواتهم بكل حرية. سيبعث ذلك فى من انتكس ربيعه أملاً وحسرة، ممن حمل آمالاً عراضاً فى ذلك العام الراحل 2011 ببلد ينعم بسلام وحرية وعدالة ومساواة وإخاء، فانتهى معتقلاً، أو مطارداً، أو لاجئاً، أو حتى مقاتلاً يَقتل ويُقتَل، ومثلما كانت تونس شعلة ألهمته، فهى اليوم أمل له.
نجاح الربيع العربى هناك، لا يعنى بالضرورة فوز «المستضعفين» الذين اعتقلهم أو شردهم نظام بن على، كالإسلاميين أو اليساريين أو النقابيين الصادقين، ليس بالضرورة أن يفوز هؤلاء وإن كانوا الأجدر والأحق، فهم من ناضلوا من أجل تلك اللحظة التاريخية، بل حتى لو فاز بها حزب «نداء تونس» وزعيمه الباجى قائد السبسى الذى لا ينتمى بسنّه المتقدم وهيئته وتاريخه وحديثه وتصريحاته وعلاقاته لزمن الربيع العربى، وإنما للعهد الذى أطاح به الربيع، لو فاز سيكون زعيم «النهضة» راشد الغنوشى أو الرئيس «الثورى» المنصف المرزوقى أول من يهنئه، ففوزه ديمقراطياً نجاح لتونس، وإيذان بتداول سلمى للسلطة، ولكن هذا إذا التزم بقواعد الربيع العربى وشروطه، وأولها «الديمقراطية الليبرالية» بشكلها وروحها، فلا يحول انتصاره وحزبه إلى إلغاء للآخر، أو ينكل به، ثم يتلاعب بأدوات الانتخاب لضمان أن يبقى هو وحزبه فى السلطة، مثلما فعل بن على ومَن قبلَه ومَن هم على شاكلته.
وهنا يحضرنى تعريف جديد صغته متطوعاً لتحديد من «المتطرف» ومن «المعتدل» فى عالمنا العربى. «من يقبل الديمقراطية الليبرالية وأدواتها من انتخاب وحرية رأى وتعبير، ويقبل بنتائجها ويلتزم بتداول سلمى للسلطة، ويحترم حقوق الخاسر فهو معتدل، ومن يرفض كل ما سبق أو بعضه فهو متطرف»، لو استخدمنا هذا التعريف فى سورية أو ليبيا، نستطيع حينها أن نحدد الجهة التى تستحق الدعم والتعاون معها، والجهات التى يمكن إعلانها متطرفة فتُنبذ ويُضغط عليها حتى تستجيب وتُغير منهجها، ذلك أن الجهة التى ترفض الديمقراطية، ما هى إلا مشروع استبداد، مثل تنظيم «الدولة الإسلامية» و«جبهة النصرة»، بل حتى «الجبهة الإسلامية» التى ينظر إليها أنها معتدلة وتلقت مساعدات من كثير من دول المنطقة قد لا تتفق مع التعريف السابق، ذلك أنها تحت ضغوط التيارات السلفية الرافضة للديمقراطية، تحاشت فى دستورها الإشارة إليها كمنهج لبناء سورية الجديدة. من دون الديمقراطية ومقتضياتها، فإن مصير بلد كسورية أو ليبيا هو الاقتتال إلى أن تتغلب فئة على الأخرى، فنعود فى القرن الواحد والعشرين لفقه «المتغلب» الذى اضطر له الفقهاء ولم يختاروه.
سيهتف التونسيون غداً «نموت نموت ويحيا الوطن» ذلك الشطر المعبّر من نشيدهم الوطنى، وهم يحتفلون بالحرية وإنجازهم الوطنى، ولكن الموت عندهم استثناء، هو التضحية التى دفعها عشرات قلائل منهم منذ شرارة الربيع العربى التى أطلقوها فى كانون الأول 2010، أما عند غيرهم ممن وصلتهم شرارة ربيعهم، أصبح الموت هو القاعدة، موت بالمئات، بالآلاف، بعشرات الآلاف، بمئات الآلاف، حتى تعب الموت عندهم من الموت، الفضل فى ذلك يعود بعد الله إلى ديمقراطية صادقة احتكموا إليها، تحيا تونس.