كَي تَبنِيها - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 10:33 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كَي تَبنِيها

نشر فى : الجمعة 27 أكتوبر 2017 - 9:05 م | آخر تحديث : الجمعة 27 أكتوبر 2017 - 9:05 م
الضمائر التي نستخدمها في كلامنا تعني الكثير، سواء صدرت عنا عفوًا أو قصدًا. نحن مَشهورون مثلا باستخدام ضميرِ الغائبِ في مُجمَل أحاديثنا، نستهلُّها في العادة بالفعل: بيقولوا. مَن الذين يقولون؟ ليس الأمر مُهمًا، المُهم هو ما يُراد قوله.. المهم هو محتوى القول نفسه ولا شيء غيره، رغم أنّ مَعرِفَة القائلَ قد تؤكِّد مِصداقيته أو تنفيها. قليلا ما يظهر الفاعلُ جليًا صريحًا، نشير إليه بذاته أو ربما بَمنصبٍ أو لقبٍ في سياقِ التَفخيم والتَضخيم. 

***
مَرَّت برأسي دلالاتُ استخدام الضمائر وأنا أتابع الحملة التي تمَّ تدشينها لإعادة انتخاب الرئيس. الضمير في الشعار الخاص بالحملة هو ضمير المُخاطَب ”التاء“، والشعار نفسه مُكَوَّن مِن كلمتين فقط: ”علشان تبنيها". هذا الضمير المُلتصِق بالفِعل يجذبُ الانتباه؛ تبنيها وليس نبنيها.. تاء لا نون.. أنت وليس نحن. 
***
يحملُ الشعارُ المَصكوك دلالاتٍ كثيرة. أنت الأوحد، أنت الأقدر، أنت الذي لا مثيل لك، أنت مَن يبني وليس أي أحد آخر، وإذا يُضفي الشعار على الرئيس صفاتِ القوة اللامَحدودة والتفرد ، فإنه يصبغ الجانبَ الآخر بسمات الضَعف والخَيبة وقِلّة الحِيلة. الرئيسُ يبني مُنفرِدًا، أما الجماهير الذليلة فعليها أن تُتابِع عملية البناء وأن تُصفِّق باستمرار، أعجبتها النتيجة أو لم تعجبها.

***

تذكَّرت بعضَ أجزاءِ الخطاب الذي حفظته شويكار لتُلقيه في الحفلِ العظيم: ”.. بحكمَتك تختالُ علينا، أنت مرآةُ حضارتِنا، أنت نعمةٌ وإحسان“. كان على ”صدفة بعضشي“ القادمة من غياهب الحواري الفقيرة الغارقة في جهل سكانها وخنوعهم، والتي تتحايل بشتى الطرق لمزاولة الحياة، أن تخاطب بهذه الكلمات خديوي مصر، وأن تجني عطفَه، وأن تُثبِت في الوقت ذاته انتقالَها مِن فِئة المُشردين إلى فِئة الهوانم. في سياقات راهنة، أكثر حداثة وتعقيدًا مِن رائعة برنارد شو ”بيجماليون“ التي تحولت على مسارحنا إلى رائعة أخرى هي ”سيدتي الجميلة“، تُصاغ خطابات وشعارات مُشابهة، لا على الخشبة هذه المرة، بل فوق أرض الواقع؛ فعلى بعض الأشخاص أن يفوزوا بنظرات الرضاء، وأن يوقعوا بأسمائهم في دفتر الرعايا الممتنين لهِبات ولي النِعَم، لعلهم يرتقون بكلماتهم في بلاطه، وينضمُّون إلى جماعة الأوفياء المُختارين. السُلطة مَوجُودة والنفاقُ حاضرٌ في موقفيّ الخيال والحقيقة، مع ذلك لا علاقة بين هؤلاء وصدفة بعضشي، فصدفة برغم الضجّة والصَخب اللذين تحدثهما، ساذجةٌ مَطحونة، وأهدافها تبدو بسيطة، مُباشرة، بل ومَشروعة لا يمكن لومها عليها.

***
حين تَمعَّنت في مسألة البناء والتشييد والقائمين عليها، راودتني أغنية عبد الحليم حافظ: ”قلنا هانبني وأدي احنا بنينا السد العالي“. الضمير الحاضر في الأغنية هو ضمير الجمع ”نحن“؛ ضميرٌ عائدٌ علينا، على الناس، على جماهير الشعب. نحن الذين نقول ونحن الذين نبني، مع أن الذي قال هو عبد الناصر والذي استطاع أن يتجاوز العقبات هو أيضًا عبد الناصر، بِغَضِّ النظر عن الخلافات المُزمنة التي تحيط بالأمر. نجحت هذه الصورة؛ صورة السدّ العالي، في الوصول إلى قلوب الناس لوضوحها وصدقها وتَجَسُّدها الماديّ، بينما أظنُّ الصورة الثانية؛ صورة ”علشان تبنيها“، ترسب رسوبًا مُدَويًا، بسبب غموضِها وصياغتها المَجازيّة المُتعالِية، وتَعَاظُم الشعور العام بأن ما يُفسَح له المجالُ مِن مشاريع وما يُشَيَّد هنا وهناك، لا يصبُّ إلا في صالح شريحة مُتناهية الصِغَر، تستأثر بالمباهج والخيرات دونًا عن الآخرين. في الحالين كان على المُضطلعين بالتسويق والترويج أن يصوروا مسألة البناء على أنها مشروعٌ قوميّ، لكن شتان الفارق بين هذا وذاك.

***
الحديث عن الضمائر في الخطابات العامة يستدعي قدرًا من التأمل، فكثيرها يؤدي إلى الارتباك والتشوش وأحيانًا إلى الشعور بالوجع، وبعضها يصبح لبنة أولى لصياغة وعي مختلف بالذات. كمثال قريب ومتكر، يستخدم الرئيس ضميرًا فيه مُفارقة دالة، يضع من خلاله حدودًا فاصلة بين جماعة وأخرى، بما يرسخ ذاك التصنيف الذي ظهر على السطح حديثًا ليدق نواقيس الطبقية الجديدة: ”نحن“ في مقابل ”أنتم“. تشير ”نحن“ في غالبية الأحوال إلى المؤسسة التي تحكُم مُتَسيِّدة المشهد، بينما تشير ”أنتم“ إلى الجموع الغفيرة؛ أنتم المصريون.. أنتم يا مصريين. تكررت الإشارة مرات ومرات وجذبت الانتباه، ولم يعد مِن عجبٍ في أن يسير على هُداها آخرون، وأن يعتمدوا الحدودَ المَرسومة، وأن يستثنوا المواطنين مِن أفعال البناء والإنجاز ”تبنيها“ .

***
أن يبني الرئيس فيغدو البطل وأن يُقصَى الشعبُ فيبيت في مَنزِلة العاجز، المُعتَمِد على فرد وحيد، ذاك ما يعكسُ الشعارَ في اللحظة الآنية وكذلك في المُستقبل المَنظور. التواكُل على شخصٍ بعينه آفتنا، والأبويةُ المُقدَّسة القَبيحة لا تزال تلوث خطواتنا وتصبغ كلماتنا وأعمالنا، والنوايا الخالصة لوجه المصلحة الشخصية تجُبُّ ما عداها وتحتل الساحة. 

***

في ظاهر الكلام ما يشي بباطِنه، وفي كل حَرف وضَمير وفَصلة وعلامة تَعَجُّب ما يفضح المكتوم.

 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات