اقتصر لقاء الأصدقاء تلك المرة على ثلاثة؛ سأل أحدهم وأين فلان؟ زعلان، ولماذا لم تتصل فلانة؟ زعلانة، وعِلان مثلهما. لم تكن المبررات واضحة إنما بدا الزعل توجهًا عامًا؛ الكل في حال من عدم الرضا، والكل يملك ما يدفعه إلي بوتقة الانعزال.
• • •
يأتي الفعل زَعِلَ في قواميس اللغة العربية بمعنى غضب واستاء، وكذلك حَنق وسخط، الفاعل زعلان وهي كلمة شائعة الاستخدام، تبدو من العامية المصرية لوقعها القريب من الأذن. المزعول منه مفعول به، والمصدر زعلا بفتح العين، أما الزعل بكسر العين فصفة مُشبهة تدل علي الثبوت.
• • •
إذا ضج المرء من عمل يتصف بالرتابة؛ قيل إنه زعل ومل من الإعادة والتكرار، وإن جاع جوعا شديدا مؤرقا؛ قيل إنه زعل من قلة الطعام وتلك إشارة لمبلغ معاناته؛ إذ المعنى المباشر أنه قد تضور وتلوى وتقلصت من الألم مصارينه، أما إذا ضايق واحد صاحبه وأصابه بالنكد؛ قيل إنه زعله بتشديد العين.
• • •
أسباب الزعل كثيرة؛ منها ما يبدو تافها لا يستحق تعكيرا للمزاج أو تكديرا لصفو البال، ومنها ما يلوح قاسيا مستفزا، يستلزم ما هو أمضى من كلمة وأشد من لفتة.
• • •
تتفاوت تبعات الزعل ما بين السلب والإيجاب؛ إن وظفها الزعلان في تجاوز الأسباب وأنتج منها ما يسر القلب ويثلجه؛ غدت إيجابية محببة، وإن أسفرت عن تراجع في مستوى إنجازه، وأفول لنشاطه وحياته؛ كانت سلبية مكروهة، والحق أن لكل امرئ ميزة الاختيار، ولكل شخص أن يوجه انفعالاته في الطريق التي تبدو بنظره مجدية مثمرة؛ وإن وجدها الآخرون علي النقيض.
• • •
يوصف الشخص الذي يبالغ في ردة فعله ما تضايق؛ بأن زعله صعب، والمعني أنه يغالي في استجابته، ويعطي الأمور أكبر من حجمها، بل وقد يكون انفعاله طاغيا؛ فيضر نفسه أو غيره من فرط الزعل، الأمر الذي يدفع المحيطين به إلي تجنب إغضابه؛ إذ العاقبة جد مزعجة.
• • •
اللي يزعل ينفلق؛ يقولها الواحد بعض الأحيان وفي قرارة نفسه إحساس بأنه اتخذ قرارا صائبا ولو لم يُعجب الأخرين. لا يهتم حينئذ بنظراتهم له ولا باعتقادهم فيه ولا بالموقف الذي يتخذونه في مواجهته. يفكر حصرا في ما يرضي ضميره ويترك لكل حرية التصرف والتقدير؛ دون أن يتأثر بالنتائج، ودون أن يوقفه الحاصل.
• • •
كثيرا ما تبدأ محاولات الاسترضاء التي يقوم بها طرف أخطأ في حق آخر، بعبارة ملاطفة أثيرة: لا أقدر علي زعلك. الكلمات البسيطة كناية عن قيمة الشخص الزعلان ومكانته عند البادئ بالكلام، وغالبا ما تمثل بادرة طيبة لانتهاء الزعل وانتفاء دواعي الخصومة. في إطار مشابه يأتي تعبير "زعلك علي عيني"؛ لكنه يحمل إضافة متوارية لا يفصح عنها المتكلم لكنها تُفهم من السياق؛ فبقية الكلمات التي لا ينطقها اللسان أن ما باليد حيلة، ولا في الإمكان إزالة أسباب الزعل؛ حتي وإن أراد القائل محوها، وبذل قصاري الجهد لتدارك ما آلت إليه الحال.
• • •
عشان ما زعلكش؛ عبارة تقال في مناسبات مختلفة، والحق أنها تأتي متنكرة في هيئة نصيحة صادقة؛ بينما القصد منها زجر ونهي ووعيد؛ فضمير الناطق بها يُخفي نية الإيذاء وإن بدت للمتمرس بقاموس التهديدات صريحة، وما القول إلا تنبيه للسامع كي يكف عن فعيله ويحذر ما قد يجلب له من ضرر.
• • •
الزعل واحد والدافع أنواع. ينتقي المتحدث حرف الجر التالي للزعل وفقا لما يكن من أحاسيس: زعلت عليه إن وقعت له مصيبة، وزعلت منه إن ارتكب ما ساءني، وزعلت له إن رأيت في أمره ما يخزي. كثيرون هم من يزعل المرء منهم ولهم هذه الأيام؛ إذ مواقفهم متخاذلة، وكلماتهم لينة مائعة.
• • •
للزعل في الأغاني القديمة والحديثة مكانة لا تُنكر، وقد أدت المطربة نور الهدى أغنية "إن جئت للحق أنا زعلانة واخدة على خاطري وغضبانة" من ألحان العظيم فريد الأطرش في فيلم "عايزة أتجوز" الذي أنتج عام ألف وتسعمائة واثنين وخمسين، فعاشت الكلمات الجذابة الخفيفة إلي الآن. لا يتخلف التراث الشعبي الأصيل عن الركب؛ ففيه المقطوعة الشهيرة: "زعلان ليه تعا أما أقول لك" والتي تُذكر في العادة تحت عنوان أغاني الأفراح؛ لكنها ملأى ولا شك بالإسقاطات والتعبيرات التي يجدها كثير من الناس من الفجاجة وقلة التهذيب بما يمنعهم عن ترديدها علنا.
• • •
إذا استفاق المرء علي علة جسيمة أصابته؛ قيل إنه نام زعلان، فثمة معتقد شائع بأن من قصد فراشه وأغمض عينيه على حزن أو ضيق؛ أعلن جسده العصيان وأفرز ما يُسبب المرض، وكثيرا ما نهتنا الجدات في أزمنة غابرة عن النوم وفي صدورنا ما يفض؛ لكنا لم نكن ندرك الحِكمة في حينها من وراء النهي.
• • •
هذه الأيام يبيت معظمنا ليلته في هم ويصحو وثقل جاثم بين جنباته، يدرك ما إن يلتقط ضوء الصباح أن ثمة ما يسوء في الأفق، وثمة ما لا يستطيع له حلا. يكابد رغبة الانسحاب التي تدهمه، ويُجاهد كي يبدأ يومه؛ فيما المشاعر المتلاطمة تشاكسه وتمزق أفكاره؛ فتورثه في إحدى اللحظات عجزا بينًا، وتلهمه في أخرى قوة هائلة تكاد تمزق قيوده، وبين هذه وتلك تُنهك الروح ويلوح الجسد كما لو خرج في التو من معركة عنيفة تهلهل في غِمارها؛ فيما اليد مغلولة والقهر ساكن فوق المقاعد.