سُـؤال - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:11 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سُـؤال

نشر فى : الجمعة 27 ديسمبر 2019 - 10:15 م | آخر تحديث : الجمعة 27 ديسمبر 2019 - 10:15 م

في حواراتِنا اليوميَّة وأحاديثنا التي تدور في تلقائية، نسأل أسئلةً هي إذا ما تريثنا أمامها؛ أسئلة عجائبية. بعضُها نعرف منذ البداية إجابته، وبعضُها ندرك أن إجابته ليست عند مَن نخاطب، والبعض الثالث لا يستقيم مَنطقه وبناؤه. يخرج شخصٌ مِن دورة المياه فيجد أمامه مَن يسأل: "كنت فين؟"، أو يصلُ شخصٌ بيتَه فيجد مِن الأهل مَن يسأله لحظة دخوله مِن الباب: "كنت بره؟".
***
أحيانًا ما يكون هدفُ السؤال مجرد التواصل مع الآخر، فتح البابِ لتفاعُل مباشر، ومدّ حبالِ الكلام، واستدراجه لردٍّ؛ لا يُهمُّ أن يضيفَ شيئًا، أو أن يجيب علامةَ الاستفهام؛ المهم أن يخلقَ فعلًا تشاركيًا حميمًا قوامه أكثر مِن فرد: أنت هنا، أنا أراك وأسمعك، وأحفل بما تقول، وسوف أقول بدوري.
***
نعرف أن للسؤالِ في البلاغة أغراضًا؛ ثمَّة أسئلة للاستنكار وأخرى للنفي والإنكار، وأسئلة يطرحها السائلُ لإظهار الصدمةِ أو إبداء الدهشةِ والانبهار. السؤالُ الخالصُ الذي لا يحملُ أهدافًا مُبطنة، وينتظر إجابةً مُناسبة، يبدو أقل الأنواع شيوعًا على ألسنتنا. أحيانًا ما نسأل وتأتي الإجابةُ غريبة، لا رابط بينها وبين السؤال؛ إذ ربما لم يفهم المَسؤول ما قيل، أو فهم ولم يعرف الردَّ المناسب، أو أنه فهم وعرف لكنه لا يريد في الحقيقة أن يجيب. التهرُّب مِن السؤال فنٌّ يُجيده المُحنَّكون؛ يحاورون في مهارة، وقد ينتزعون آهات الاستحسان بمناوراتهم الكلامية؛ فيما لا يقدمون جديدًا ولا يضيفون شيئًا للجمهور.
***
مِن كبار المسئولين الذين يقضون أوقاتًا طويلة في الإدلاء بتصريحات وإجراء مُقابلات ومُحادثات، ويظهرون أمام الشاشات والميكروفونات، مَن لا يُتقن فنَّ التعامُل مع الأسئلة، ولا يجد في جعبته مِن اللباقةِ واللياقةِ ما يمنحه خروجًا آمنًا؛ متى جاء السؤال مُحرجًا، أو مبشرًا بعواقب سيِّئة. بعضُ الأحيان تطولُ فترةُ الصَّمت، وحين ينطق المَسئولُ يقول الناسُ في السرِّ والعلانية: ليته ما نطق.
***
السؤالُ عن شيء يعني الاستفسار بشأنه. "السائل" هو الفاعل، أما "المَسئول" فمفعول به؛ هذا ما تورده معاجمُ اللغة العربية دون مُواربة أو التباس؛ لكن الحالَ على أرض الواقع تُفصِح عن مَعنى آخر؛ إذ "المَسؤول" يعمل دومًا عملَ الفاعل لا المَفعول؛ فيتخذ القراراتَ، ويُحدِّد ما يجوز وما لا يجوز، ويُنحِّي خلال عمله كُلُّ مَن يُعارضه، ويُنكِلُّ بمَن يُجافي رغباتَه ومقاصدَه، فلا يسأله واحد عن إنجاز أو إخفاق، ولا يراجعه الآخرون مِن زمرة المفعول بهم. المُسائلة هي المُحاسبة؛ عملُ المرء في ميزان التقييم. يُفتَرَض بطبيعة الحال أن يكون صاحبُ المَنصب في مَوضع المُسائلة أمام الجماهير، وأن يخضع للمُحاسبة، وأن يعاتبه الناسُ على صنيعه أو يكيلون له المديح. يُفترَض أيضًا أن يجد الردودَ المناسبة، وأن يُشفيَ غليلَ السائلين، ويفيهم حقوقَ الفهم والمعرفة، لكن افتراضات كتلك لمثالية نادرة؛ إذ لا يملك كثير المَسئولين على اختلاف مواقعهم، الإجاباتِ المَرجوة، فالأمر ليس بأيديهم إنما بيد عمرو.
***
ثمَّة تساؤلاتٌ وجوديةٌ مُعلقة؛ يدور الفلاسفةُ حولها، أو يتعمقون في جوهرها ويُفتشون في صُلبها، يضعون بشأنها النظريات ويسردون الحلول والاحتمالات، لكن علاماتِ الاستفهام لا تُحسَم رغم الجهود المُضنية، وتبقى الاستفهاماتُ في الأذهان حية مُؤرقة؛ تستدعي بين الحين والآخر مزيدًا من المحاولات.
***
إذا قيل ”سؤالٌ“ قفزت إلى الذهن أيامُ الدراسة وأوقات الامتحانات. تلك الورقةُ التي تتراصُ فيها الأسئلة المُحكَمَة؛ يتلقفها المتنافسون على حَصد الدرجات بلهفة، بينما تبثُّ الخوفَ في نفوس مَن يأملون فقط في النجاح، واجتياز العقبة بسلام. يتابع المُراقبُ الأيدي تجيب؛ بعضَها بطيء وأقلَّها سريع، أسئلة تستوفي حقها في عبارات وفقرات مُطوَّلة، وأخرى تظلُّ عاريةً بلا حرف يسترها.
***
إذا طلب واحد من آخر مُساعدةً ما، استهلَّ طلبه أو ختمه بالدعاء: "يكفيك شرّ السؤال". السؤال هنا نابع من الحاجة؛ فاقة وعَوَز يدفعان المرءَ لمدّ اليدّ واستدرار التعاطُف والإشفاق. عمَّت حالُ الاحتياج. تصاعدت أعدادُ مَن يسألون، وتراجع بعضُ مَن يُعطون بدافع مِن بُؤس الأوضاع الاقتصادية وترديها، حتى صار شرًّ السؤالِ قاعدةً لا استثناء.
***
مِن الأسئلة ما هو إجباريٌ وما هو اختيار. الإجبار دومًا مُقلِق، مُقِض لراحة البال، فيما الاختيار باعث على الهدوء والاسترخاء، والحقُّ أن صوغَ الأسئلةِ سواء كانت مِن هذا النوع أو ذاك، خير مِن صكِّ الإجابات، فالسؤالُ مُقدِّمة للتفكير، والتفكير يعني إعمالَ العقل، ورفض المُعلبات الجاهزة التي تحوي مادةً ضارة في أغلب الأحوال.
***
أسئلةٌ كثيرةٌ مَطروحة على الطريق؛ أغلبها عَصيٌّ على التفكير إذ المُعطيات شحيحة، والأضواءُ باهتة، والأفق مُعتِم؛ تتكاثف فيه الغيومُ وتحجبُ الآتي. لكُل عامٍ جديدٍ سؤال، وسؤالُ العام عصيبٌ؛ فالاختيار مِن مُتعدِّد، والمُتعدِّدات لا تزال غائبةً عن أوراق الإجابة وأذهان المُجيبين.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات