باستثناء بعض الملاحظات المهمة على البرنامج الثقافى لمعرض القاهرة الدولى للكتاب فإن المعرض نجح خلال دورة هذا العام فى خلق صورة جديدة له كمعرض مختلف يحظى بجماهيرية لا مثيل لها فى أى معرض عربى آخر.
وهذه حقيقة تقتضى الأمانة عرضها أولا ومعها جميع الإيجابيات التى لمسناها هذا العام لكن المسئولية تقتضى كذلك لفت الأنظار إلى بعض السلبيات وأول ما ينبغى قوله بوضوح أن المعرض بصيغته الحالية باتت له قدرة أكبر على جذب الناشرين من جميع أنحاء العالم، بعدما انتهت مظاهر الفوضى التى كانت تحاصره لسنوات.
وبفضل المرونة التى تعاملت معها الهيئات الأمنية المعاونة لهيئة الكتاب فى إجراءات التنظيم وتجهيز القاعات أصبح دخول الجماهير إلى المعرض ميسرا على خلاف ما كان قائما فى الدورة السابقة.
وبفضل فريق تحرير صفحاته على التواصل الاجتماعى نجحت عملية الترويج لفعاليات المعرض بحرفية بالغة، كما كان أداء الفريق الإعلامى لنشرة المعرض متميزا للغاية، وبالإضافة إلى ذلك أحسن القائمون على المعرض استثمار ماضيه عبر قناة اليوتيوب التى عرضت لقاءات نادرة من دوراته السابقة، كما تعاملت إدارة المعرض مع حاضره بمهارة عبر ابتكار فكرة استديو المعرض الذى يستضيف رواده فى لقاءات يجريها إعلاميون محترفون.
وكل هذه الإيجابيات تحسب للدكتور هيثم الحاج على وفريقه لكن السؤال الذى يحتاج إلى تفكير: ما الذى ينبغى على إدارة المعرض مراجعته ليصل إلى حالة أفضل؟
أعتقد أن أول ما ينبغى التفكير فيه هو التحرر من الصيغة التى أوجدها الراحل الدكتور سمير سرحان لبرنامجه الثقافى، وهى صيغة عبرت عن السياسات التى كانت محكومة بتوازنات بين تيارات فكرية وسياسية لم تعد موجودة الآن بالحجم الذى كانت عليه فى السابق وهذا بحد ذاته مؤشر أزمة يحتاج لنقاش آخر.
ولا أحد يجادل اليوم فى أن نخبة مبارك الثقافية والسياسية التى كانت ندوات المعرض «فاترينة» لعرض أفكارها قد تحللت إلى حد كبير ولم يعد لها وجود ظاهر فى مراكز صنع القرار، وبالتالى فإن العناوين التى تم وضعها للندوات الفكرية لم تعد صالحة أو قادرة فى العصر الحالى على مغازلة الجمهور الذى تغيرت مصادر معرفته واحتياجاته.
ومن وجهة نظرى عانى البرنامج الفكرى من ترهل نتيجة «التخمة» التى أصر عليها المنظمون وعلى اختلاف المسميات جاءت الندوات فى غالبيتها محكومة بعناوين إنشائية تملأ الفراغات وتعجز عن جذب الجمهور وتلبية حاجاته.
وللمرة المليون يثبت بالدليل القاطع أن الإصرار على المجاملة والاستجابة للتوازنات يفرغ غالبية الندوات من مضمونها وأهدافها وعلى الرغم ما فى فكرة «إفريقيا ثقافة التنوع» من مكاسب سياسية وثقافية إلا أنه كان ينبغى استثمارها بشكل أفضل مما انتهت إليه.
ومن جانب آخر علينا التفكير فى وسيلة تستثمر تدفق الجمهور على أجنحة بيع الكتب وهى الوظيفة الأهم للمعرض وإذا كان هناك تحفظات يبديها البعض إزاء ما تنقله صفحات «السوشيال ميديا» من عناوين أو صفحات من كتب ذات مضمون ضعيف فإن الجانب المشرق فى الموضوع هو أن القراءة أصبحت حالة متحققة على أرض الواقع وليست افتراضية كما يعتقد البعض ما يلزم الدولة بالتفكير فى سياسات جديدة للنشر الحكومى تزيد من عدد المكتبات العامة وتعيد النظر فى طرق تزويدها لتعويض الارتفاع المبالغ فى أسعار الكتب.
وهو ما يلزم كذلك بمحاصرة عمليات تزوير الكتب وحالات الاعتداء على الملكية الفكرية بعد أن تحولت القاهرة لعاصمة لتزوير الكتاب عربيا
وأخيرا من حق هذا الجمهور الذى يصطف بحثًا عن المعرفة أن يجد صيغة جديدة ومختلفة لا تلبيها «ثقافة الحشد» التى تنقل عدوى مؤتمرات الأدباء والشعراء إلى معرض الكتاب، فمن غير المعقول أن يصل عدد الشعراء المشاركين إلى أكثر من 400 شاعر فى جميع الفعاليات وربما أكثر فى حين خلت أغلب القاعات من الجمهور وزاد من ذلك أن المعرض افتقد الأسماء اللامعة التى كانت تجدد دماء برنامجه وأعتقد جازما أن مسألة إعداد البرنامج المصاحب للمعرض تحتاج إلى «مبرمج» متخصص وهى وظيفة قائمة فى دول مجاورة وفى بلد تمثل رموزه الثقافية أعز ما يملك لا يمكن أن تكون المهمة مستحيلة لكنها تحتاج إلى «عقل آخر».
ولنا قدوة حسنة فى مؤسسة صغيرة وناشئة مثل بيت الرواية فى تونس نجحت بميزانيتها الضئيلة فى دعوة كاتب شهير مثل البرتو مانغويل لتقديم محاضرة الشهر المقبل وهو من أفضل من كتبوا فى تاريخ القراءة وكل مؤلفاته ومنها «يوميات قارئ» وتاريخ القراءة «ومتعة القراءة» ترتبط بموضوع المعرض الذى يحتاج من يقوم على إداراته إلى بذل جهد إضافى للتفكير «خارج الصندوق».