مراجعات - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:56 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مراجعات

نشر فى : السبت 28 فبراير 2015 - 12:40 م | آخر تحديث : السبت 28 فبراير 2015 - 12:40 م

ذاهبون إلى المراجعة النهائية أو عائدون منها. طُلاب وطالبات تُمَثِّل لهم هذه المراجعة أهم شىء فى الكون. بوابة الحصول على المجموع الكبير والشهادة التى يسعى خلفها الجميع؛ بنات وأبناء وكذلك أمهات وآباء. المُراجعة النهائية هى السِرّ المَفضوح الذى يتداوله الطلبة بحرص واهتمام ويُعلّقون عليه طموحاتهم فى نهاية كلّ عام، هى الجلسة السحرية التى تُوَزّع بأماكنها المَنشورات، ويتنافس فيها المدرسون، وتُلصَقُ بمواعيدها أوراقٌ فى الطرقات، وأحيانا ما توضع إعلاناتها داخل المدارس نفسها لتقطع وعودا صارمة بطرح أسئلة وإجابات لا يتخطاها الامتحان. يُقبل عليها الطُلاب وكأنها الفرصة الأخيرة للنجاح والتفوق، وكأن ما سيُقال فيها هو طوق العبور والنجاة.

***

أخيرا انضمت كلمة «المُراجعة» ومُشتقاتها إلى طائفة الكلمات والمُصطلحات المَحبوبة التى تتداولها وسائل الإعلام. ظهرت فى سياق مختلف لكنها لم تفقد دلالتها المألوفة، فقد ظلت فكرة العبور والنجاة حاضرة، تشكل الهاجسَ والمَسعى الرئيس لآخرين ليسوا بتلاميذ بكل تأكيد، لكنهم يقومون فى هذه الآونة بمُراجعات لا نعلم عنها الكثير. لا تجرى هذه المراجعات فى العلن، ولا تُخَصَّص لها مراكزٌ ولا يتبارى فى تنظيمها أباطرة الدروس، والقائمون بها لا يحظون بإمكانية اختيار المكان والزمان وفقا للظروف، فأوضاعهم لا تسمح بمثل هذا الترف. كلما مررت بحديث أو تحقيق أو حتى خبر صحفيّ حول تلك «المراجعات» قفزت إلى ذهنى مراجعة ليلة الامتحان. بين المراجعتين فارق كبير لكنهما تشتركان فى بعض التفاصيل.

***

مراجعات المسجونين تهدف إلى محو ما قرّ فى عقولهم لزمنٍ طويل، بينما مراجعات ليلة الامتحان تهدف إلى تثبيت المعلومات المُلتصقة بالكاد فى رؤوس التلاميذ. الحالان متشابهتان كونهما تجريان تحت ضغطٍ شديد؛ أعضاءٌ منتمون إلى جماعات دينية يعيدون التفكير فى آرائهم مِن داخل السجون، مُعرَّضين إلى المُبالغة فى الأحكام التى تصدر ضدهم، والاعتقالات العشوائية لأقربائهم، وكذلك إلى التنكيل وربما التعذيب، وتلاميذ يحاولون استعادة ما حصلوه خلال شهور خاضعين إلى سلطان الخوف الشديد، ومُهَدَّدين بضياع الفرص الموعودة وبمستقبل مُظلم كئيب، وهم يتوترون لدرجة تدفع بعضهم إلى الانتحار هلعا مِن المصير الذى ينتظرهم عند الفشل أو الرسوب.

***

كثيرا ما أدت المراجعة النهائية التى تسبق موعد الامتحان بساعات قليلة إلى التشوش وإرباك التفكير وخلخلة البيانات والأحداث والأرقام المحفوظة بالكاد فى الذاكرة. قيل لنا دوما فى مراحل التلمذة بمراتبها ودرجاتها إن المراجعة –أى مراجعةــ فى ظل التوتر والضغط النفسىّ والعصبىّ العنيف لا تستقيم ولا يُعتَدّ بها، أستحضر النصائح وأفكر إلام سوف تؤدى مُراجعات السجون.

هؤلاء الذين عُرِضَت عليهم فكرة المُراجعة فى تسعينيات القرن الماضى استجابوا بإحدى طرق ثلاث؛ منهم مَن رحَّب بالفكرة ونفذها وثبت على مراجعاته وأفكاره الجديدة حتى يومنا هذا، ومنهم مَن وافق عليها واتخذها وسيلة للخروج مِن السجن فقط ولم يلبث أن عاد إلى أفكاره السابقة بعد حين، ومنهم أيضا مَن رَفَضَ الفكرة برمتها وبقى محروما مِن حريته متمسكا بقناعاته دون أدنى تغيير.

قيل إن مئات القابعين فى الزنازين والمعتقلين فى الآونة الاخيرة وافقوا على المُراجعة، وإن مئات آخرين وقعوا ما أُطلِقَ عليه «إقرار التوبة» مُتبرئين مِن الجماعة أو الجماعات التى انتموا سلفا إليها. قيل أيضا إن أولئك وهؤلاء لم يتعرضوا إلى ضغوط مِن أى نوع، وإن بعضهم سوف يُوَقِّع وثائق اعتراف بخارطة الطريق إمعانا فى التدليل على ما كان عليه مِن خطأ، وإعلانا لتأييده نظامَ الحكم الحالىّ.

***

الخارجون مِن السجون سيتلقون دروسا ومراجعات مِن مدرّسين مَهَرة بغرضِ التأكد مِن استيعابهم للأفكارِ الجديدة، والتيقن مِن استقرارها فى أدمغتهم، ولا مَفَرّ مِن التساؤل هنا حول الضوابط والشروط، وحول الإطار الذى ستتم فيه التوافقات المعتادة والمتوقعة، وقبل هذا وذاك حول مدى أخلاقية الأمر ومدى صدقه. مِن غير المنطقىّ أن يعلن الناس ــ عن قناعة حقيقيةــ تبديل معتقداتهم التى ترسخت على مدى سنين فى أسابيع أو أشهر قليلة وفى مثل هذه الأجواء المضطربة، وأظن أن كثيرا من هؤلاء الأشخاص ما كانوا ليبادروا أو يقوموا بالمراجعات فى ظروف أخرى مغايرة.

على كل حال تبقى السيطرة على الجسد مُمكنة ويسيرة، أما السيطرة على فكرة ما ومحوها مِن الوجود ففعل يبدو من الصعوبة بمكان.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات