اقتصاديون للعدالة والتشريع - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 5:05 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اقتصاديون للعدالة والتشريع

نشر فى : الإثنين 28 فبراير 2022 - 9:55 م | آخر تحديث : الإثنين 28 فبراير 2022 - 9:55 م

الاقتصاد علم اجتماعى، لكنه يتميز بخصائص عدة تجعله أقرب إلى العلوم الطبيعية من حيث الدقة والقابلية للقياس والتجريب. ومنذ أن نشأ علم الاقتصاد السياسى الحديث على يد مؤسسه الأشهر «آدم سميث» وحتى يومنا هذا، والاقتصاديون فى الدول المتقدمة يحتلون مكانة متميزة فى عملية صناعة القرار على اختلاف مستوياتها، وفى قيادة المؤسسات المسئولة عن صياغة السياسات النقدية والمالية والتجارية لتلك الدول. وفى هذه السطور سأتعرض سريعا إلى عدد من المواقف التى لعب خلالها علماء الاقتصاد دورا محوريا فى توجيه النظام القضائى، وصياغة وتعديل التشريعات المؤثرة فى اقتصادات دول كبرى.
• • •
شهد عام 1890 صدور قانون «شيرمان» بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو يعد أقدم القوانين الخاصة بحماية المنافسة فى الأسواق الأمريكية. وقد تأسست فلسفة هذا القانون على مفهوم كلاسيكى لهيكل السوق وعدد الشركات المنتجة فيه، ومدى تركّز الصناعة فى ذلك الهيكل الحاكم لها، وما لهذا من تداعيات على أداء السوق والأسعار السائدة والفوائض التى يمكن أن تتحقق لدى المستهلك أو البائع. من ثم كان من الطبيعى أن يجرّم القانون التحالفات التى تقضى بتقليص عدد الشركات المتنافسة فى السوق، مبنيا على أساس أن مجرد وجود عدد قليل من المنتجين ينشأ عنه بالضرورة اتفاقات ضارة بالمستهلك وتآمر عليه. القسم الأول من القانون كان يحظر العقود والتحالفات والمؤامرات التى تحد من حرية التجارة، بينما القسم الثانى كان معنيا بتجريم محاولات احتكار السوق. وقد أثر منظور المؤسسات الحكومية لتحقيق تلك الأهداف لاحقا على صياغة قانونى «كلايتون» وقانون لجنة التجارة الاتحادية.
من ناحية أخرى اختصمت الحكومة الأمريكية بصفتها القائم على تنفيذ القانون عددا من الشركات، وقضت المحاكمات القضائية بتقسيم بعضها وبتغريم بعضها الآخر ونتج عن الرقابة السابقة لأعمال الشركات أن ترفض الحكومة اندماج أو استحواذ بعض الشركات على شركات أخرى على الرغم من أن نصيبها الجديد من السوق لم يكن كبيرا بشكل مطلق، ولم يثبت أنها قامت أو ستقوم بأية ممارسة احتكارية ضارة!
كان تنفيذ القسم الأول من قانون «شيرمان» أكثر سهولة، بينما كان القسم الثانى لا يخلو من ضبابية فى التفسير، مما عطّل فعليا العمل بالقانون لسنوات طويلة، وكثيرا ما قضت المحكمة العليا برفض الدعاوى والبراءة بمقتضى مبدأ حكم المنطق rule of reason الأمر الذى ساهم فى عكوف الاقتصاديين المتأثرين بالنظرية الكلاسيكية على تطوير قانون شيرمان مما نشأ عنه قانون كلايتون وقانون لجنة التجارة الاتحادية المشار إليهما. يذكر أن شركة «ستاندرد أويل أوف نيوجيرسى» (لصاحبها الشهير روكفلر) كانت أول شركة تدان بموجب القسم الثانى من قانون شيرمان قبل تعديله.
المحصلة النهائية لهذا التطبيق الحرفى لتلك القوانين هو خسارة كثير من الشركات لملايين الدولارات فى وقت كانت الملايين تعنى الكثير. واستمر تدفق تلك الخسائر خارج الأسواق، تارة بسبب ضعف القانون، وتارة بسبب سوء فهم طبيعة الأسواق، حتى ظهر إنتاج مجموعة مدرسة شيكاغو الاقتصادية فى سبعينيات القرن الماضى من أمثال «ريتشارد بوسنر» و«روبرت بورك» التى وضعت مفهوما جديدا للاقتصاد الصناعى، يركز بشكل كبير على تصرفات الشركات والقيود التى تفرضها على دخول المنتجين الجدد. ولولا جهود هؤلاء الاقتصاديين وغيرهم لما اكتشف العالم الجديد أن ثمة فرق بين هيكل السوق باعتباره سببا مباشرا فى التأثير على كفاءة أدائه، وبين ممارسات الشركات أو ما يطلق عليه Market Conduct. وقد أثبت اقتصاديو شيكاغو ومن بعدهم أن الكثير من حالات التكامل الأفقى والرأسى بين الشركات تؤثر بالفعل فى هيكل السوق، لكنها لا تفرض قيودا على الدخول، بل وتؤدى إلى خفض تكاليف الشركات وتحسين كفاءتها ومن ثم خفض الأسعار للمستهلك، الأمر الذى يحسّن من كفاءة الأسواق ولا يعود بالضرر على المستهلك ولا يقود الشركات ذات الحجم الكبير إلى تسعير منتجاتها أعلى بكثير من التكلفة الحدية لتحقيق أرباح مغالى فيها.
• • •
منذ ذلك الحين خسرت الحكومة الأمريكية عدة دعاوى قضائية ضد الشركات، وتأثرت المحكمة العليا بالمنطق الاقتصادى السليم، ثم تأثر الإطار التشريعى لاحقا بتلك الأفكار، من ذلك دعاوى ضد شركتى كوداك وآى بى إم وغيرهما. ثم سيطرت نظرية الألعاب بعد ذلك على فهم طبيعة الأسواق من واقع فهم وتفسير ممارسات واستراتيجيات الشركات فى أسواق احتكار القلة وأسواق المنافسة غير الكاملة، وهى الأسواق الأكثر انتشارا والأكثر تعبيرا عن هيكل السوق الواقعى. وهنا قاد الاقتصاديون مرة أخرى تأسيس العلاقات التجارية الدولية واتفاقات التجارة العالمية، وكان للاقتصادى الأمريكى «جون ناش» دور بارز فى تفسير والتنبؤ باستراتيجيات الشركات فى أسواق المنافسة الاحتكارية أسوة بالألعاب غير التعاونية التى يمكن أن تشهد استراتيجيات محققة لأكبر نفع ممكن لأحد المتنافسين، فى ضوء الاستراتيجيات المحتملة لسائر المتنافسين الآخرين، من هنا كان توازن ناش الشهير وغيره من نظريات حديثة فى الاقتصاد الصناعى عاملا مهما فى فهم آلية التشريع لحماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية الضارة، وأصبح القضاء الأمريكى يدرس حالات الاحتكار كل على حده وبنظرة اقتصادية سليمة. وكل ما سبق هو بعض إسهام لنفر من الاقتصاديين فى فرع واحد فقط من فروع الاقتصاد الجزئى!.
• • •
فى مصر مازالت الحكومة وهيئاتها وأهل المهن وأصحاب المصالح يشكلون المصدر الوحيد تقريبا للتشريع الاقتصادى، بعيدا عن الاستعانة بالاقتصاديين المختصين إلا فى أقل الحدود. كما تظل مكاتب المحاماة خالية من الاقتصاديين أصحاب الرؤية والتأثير، إلا لدى قلة نادرة من المكاتب المتخصصة فى قضايا بعينها. وعندما اتجهت الدولة إلى إحداث قدر من التوازن فى التمثيل النيابى بغرفتى البرلمان من خلال تعيين عدد من الأعضاء، لا أذكر أن الاقتصاديين قد حظوا بنسبة تذكر فى التعيينات، التى يمكن من خلالها التأكد من أن التشريع فى المجالات الاقتصادية المختلفة يهتدى بفلسفة ورؤية اقتصادية منضبطتين.
وحدهم الاقتصاديون الذين أمكنهم التمييز بين الوضع الاحتكارى والممارسات الاحتكارية الضارة، وهم الذين أخرجوا شركة الصلب الأمريكية US steel عام 1920 من ورطة الإدانة بتهمة الاحتكار رغم سيطرة الشركة فعليا على نحو 70% من السوق. وحدهم الاقتصاديون يمكنهم أن يهضموا تطور الفكر الاقتصادى عبر المدارس الفكرية وصياغة قانون جديد يحقق الغرض من التشريع وفلسفته، وليس فقط تحقيق أهداف أصحاب المصالح المباشرة الذين يمكنهم السيطرة على السلطة التشريعية فى أية دولة، سواءً عبر الترشح للتمثيل النيابى أو من خلال التأثير على النواب والشيوخ.
الاقتصاديون فى الولايات المتحدة وأوروبا يتربعون على قمة الهرم التنفيذى فى البنك الفيدرالى وبنوك الاستثمار والبنوك التجارية وشركات إدارة الأصول والبورصات وشركات التأمين والتمويل العقارى وصناديق التحوّط... فضلا عن العديد من المؤسسات والهيئات الفاعلة فى القرار الاقتصادى والسياسى. الاقتصاديون فى بلادنا على ندرتهم وقلة عددهم يبحثون لأنفسهم عن موقع فى الأسواق بين المحاسبين والماليين وربما مبرمجى الحاسب الآلى! فقط لأن قيمة الاقتصاد مازالت غائبة عن إدراك ووعى الكثيرين.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات