دعيت منذ عدة أعوام إلى إلقاء محاضرة فى لقاء شبابى إسلامى مسيحى فى صيدا ــ لبنان. تحسبت كثيرا فى الخطاب الذى قدمته، خشية أن يفجر الحديث قضايا لا يمتلك المشاركون قدرة أو رغبة فى الخوض فيها.
فرغت من المحاضرة، وحان وقت التعقيبات والأسئلة، فوجدت المشاركين أكثر قدرة على الحوار، واستيعاب الاختلاف مما توقعت. وكان درسا بالنسبة لى. عدت إلى القاهرة، وبعد أيام كنت محاضرا فى دورة تدريبية للشباب تناولت قضايا بعضها شائك يتصل بحقوق الإنسان، والأحوال الشخصية.
فوجدت التشنج فى صفوف الحاضرين، وعدم القدرة على الاستماع، ورفض الاختلاف. استغربت كثيرا عند المقارنة بين الحدثين. فى دولة خرجت من حرب أهلية طاحنة، لا يزال المشاركون فى اللقاء يحملون بصماتها النفسية، وجدت الحوار يتدفق فى هدوء وسلاسة، يغلفه رغبة واضحة فى الاستماع إلى الرأى الآخر، فى حين أن دولة أخرى.
لم تشهد ما شهدته الأولى، وظلت لقرون متماسكة، تحافظ على تنوعها، ورغم ذلك أصاب شبابها أمراض التشنج، والغضب عند الاختلاف، وغياب القدرة على قبول التنوع.
والسؤال المنطقى هو لماذا انحدر الشباب المصرى إلى مثل هذه المساحة من غياب التسامح؟
(1)
لا أعرف لماذا تذكرت هذه المقارنة، حين وجدت إمارات الغضب تعلو مشاعر بعض الأقباط تجاه فيلم «واحد صفر» إلى الحد الذى دفع بعض المحامين إلى تحريك دعوى قضائية ضد عمل سينمائى لم يكن قد عرض بعد.
القضية التى يتناولها الفيلم ــ كما فهمت ــ هى مسألة الطلاق عند المسيحيين. وهى قضية واضحة، وملحة، لا يستطيع أحد تجاوزها، أو إنكار مدى إلحاحها. ومن الطبيعى أن تعرف طريقها إلى السينما أسوة بأى قضية أخرى.
ولا أود أن أناقش هذه المسألة الشائكة، فقط أريد التوقف أمام رد الفعل الانتفاضى الغاضب فى أوساط الأقباط تجاه عمل سينمائى، وهو أمر تكرر فى السابق إزاء فيلم «بحب السينما».
بالطبع أستطيع أن أعرف أسباب الغضب، وأصل إلى جذوره فى السياسات الحكومية غير الحصيفة التى أججت المشكلات الطائفية، بدلا من حلها، وفى شعور الأقباط المتنامى بالحصار، ورفض المجتمع لهم.
وهو أمر حادث وحقيقى لا ينبغى إنكاره. هناك قطاع من الأقباط يرى أن التمييز يحاصره، وسواء كان هذا الشعور حقيقيا أم وهميا، فإن الأمر المتيقن أنه شعور ضاغط على النفسية القبطية. وكلما وقع حادث طائفى هنا أو هناك، وجرى تسويته بالمجالس العرفية التى لا تطبق القانون، تعزز هذا الشعور، وتحول إلى يقين، ويصبح أى عمل سينمائى يتناول الشخصية القبطية.
خارج الإطار الصمغى الملائكى الذى رسمه أسامة أنور عكاشة، رصيدا مضافا إلى الشعور بالتمييز، يدفع المكبوت إلى السطح، وتتذكر الذهنية الجمعية للأقباط الشعور الجريح بغياب المساواة.
(2)
الظاهرة لها وجوه أخرى. الشعور القبطى بالتشنج لا يجد سندا فقط فى التمييز الذى يُمارس ضد الأقباط فى مناح شتى، لكنه ــ وهذا هو الأهم ــ يستمد ماء الحياة من ثقافة محافظة شكلية اجتاحت المجتمع المصرى فى العقود الأخيرة بفعل خطابات الحركة الإسلامية.
ولا أود أن ينصب الحديث هنا على نقد التيار الإسلامى، فهذا ليس المبتغى من المقال، ولكن يكفى أن نتعقب ملامح الثقافة التى غرستها الحركة الإسلامية فى المجتمع، لنكتشف طبيعة رد الفعل الذى أحدثته فى المحيط القبطى. فقد أطلق الإسلاميون خطابات يعلو فيها الشكل على المضمون، تتجه إلى تنميط المجتمع فى مسمى «إسلامى».
الاسم إسلامى، والتحية إسلامية، والزى إسلامى، والتليفون المحمول إسلامى، كل شىء يجب أن يكون إسلاميا شكلا، حتى وإن لم يرق مضمونه إلى هذا الوصف. أحدث ذلك رد فعل معاكس لدى الأقباط، صارت أسماؤهم قبطية صرف، وتجمعهم قبطى بحت، وحياتهم الاجتماعية مقصورة عليهم، ومظهرهم الخارجى تعبيرا عن هويتهم.
لم تعد مساحات الالتقاء بين المصريين المختلفين فى الدين حاضرة فى كل الأحيان. فى مترو الأنفاق يمسك شخص ملتحٍ أو امرأة محجبة مصحفا تقرأ فيه، أو أدعية تكررها، فيمسك قبطى فى المقابل إنجيلا يطالعه، أو كتابا دينيا يقرأ فيه. يستمع المسلم إلى آيات قرآنية وأذكار عبر هاتفه المحمول، فتجد القبطى يستمع إلى تراتيل دينية طالما أن الهاتف المحمول تحول إلى جزء من الدعوة الدينية وليس وسيلة اتصال.
إذا كان ذلك يعبر عن بعض مظاهر التدين الإسلامى فى خطابات الحركة الإسلامية، ففى حدود علمى فإن المسيحية لا تطلب من أبنائها مثل هذه المظاهر، وقد تستنكرها لشكليتها المفرطة.
الحركة الإسلامية بتشنجها بهتت على الأقباط، فصاروا متشنجين، غاضبين، أقل قدرة على قبول الاختلاف. وإذا حل شكل التدين غاب جوهره. وهنا أتساءل لماذا فى مجتمع موغل فى التدين «المظهرى» على هذا النحو يشيع فساد يزكم الأنوف، ويتلون الانحراف الاجتماعى بأشكال غير معهودة، وتكتسب لغة الحوار بذاءة غير مسبوقة، ويزداد الناس إحباطا يوما بعد يوم؟
(3)
الإجابة الحاضرة عندى أن الثقافة المتشددة ضربت جذور المجتمع المصرى. ولا نستغرب أن ينتقد المثقفون الليبراليون مصادرات الكتب التى يقوم بها مجمع البحوث الإسلامية، فى الوقت الذى طرق فيه بعض المحامين ورجال الدين الأقباط بابه يبحثون عن سند لوقف عرض فيلم «بحب السينما» منذ بضع سنوات. ولا نندهش حين يثور الإسلاميون ضد رواية «وليمة لأعشاب البحر».
ويثور الأقباط ضد كتاب «عزازيل»، وكأن رواية لم يقرأها سوى نفر قليل، أو كتابا سيوزع بضع مئات من النسخ سوف يقوض أساس الدين، ويؤذى مشاعر المتدينين. هؤلاء المتدينون يتصالحون مع الفساد، وإهدار المال العام، والفوضى كل لحظة، بل قد يكونوا من صناعها، وأبطالها الأساسيين. إنه مجتمع غائب أو مغيب.
يتحرك معصوب العينين فى ساقية التشدد والغلو الثقافى، لا أحد يوقف انحداره وترهله. وللأسف كل مظاهر التفسخ والزيغان الاجتماعى تٌبرر بخطابات دينية شكلية، لا معنى لها سوى تسكين نوازغ التغيير الحقيقى فى النفوس.
هؤلاء المتدينون الذين يثورون ضد عمل إبداعى أو فنى، مع تحفظنا أحيانا عليه، بدلا من أن يطالبوا بالديمقراطية، والحرية، والحكم الصالح، هم فى الحقيقة متواطئون مع ثقافة ضد التقدم.
وإذا كانوا مؤمنون حقيقيون فلماذا لم نسمع لهم صوتا فى الحرب ضد الفساد، وتراجع الشفافية، وضعف الديمقراطية، وانتهاك حقوق الإنسان. لا معنى أن يظلوا متحدثين باسم السماء، مدافعين عن الحق الإلهى، وهم ينتهكون بالفعل أو الصمت الحق الإنسانى فى حياة نظيفة خالية من الفساد السياسى والأخلاقى.
الله يدافع عن حقه، فقط يطلب من الإنسان أن يدافع عن كرامته وحقه. وإلا فلا معنى للتدين، ولا مجال للمزايدة باسم الدين.