أمام أحد المحال بالنادى الرياضى القديم، جلس عدد من الشباب يتحدثون وهم يلوحون بأيديهم، بينما تبدو على وجوههم حماسة كبيرة لا يخطئها عابر، التقطت أذناى بضع كلمات متقطعة، فهمت من خلالها أن مناقشتهم تدور حول حلقة من حلقات المصارعة الحرة، ثم انتبهت إلى شاشة التليفزيون الماثلة أمامهم، والتى كانت تعرض جولة لمجموعة من المصارعين داخل قفص حديدى.
خلال الأسبوع ذاته، وصلت إلى يدى جريدة لا أبتاعها بانتظام، وفى منتصفها تماما ملحق من أربع صفحات، مخصص بكامله لأخبار المصارعة الحرة وأبطالها المرموقين، شيئا فشىء اكتشفت أن شبابا كثيرين أعرفهم، يتابعون فاعليات المصارعة فى شغف، وأن أطفالا لم يتجاوزوا العاشرة يحفظون مواعيد برامجها ويتسمرون أمامها منبهرين، استرجعت شعبية اللعبة التى علقت بذهنى منذ سنوات طويلة، ثم اختفائها المباغت من دائرة الاهتمامات، وأخيرا عودتها فى هذا الوقت وبتلك الصورة التى لفتت انتباهى والتى أعترف بأنها قد فاجأتنى حقا.
حكى لى أصدقاء عن أطفالهم الذين يبكون لشراء أحزمة البطولات العريضة ذات اللونين الذهبى والفضى، يصطحبونها معهم أينما ذهبوا، ويرتدونها فوق ملابسهم متباهين، رأيت بعضهم يُصِرُّ على التجرد من ملابسه والجلوس بصدر عار وشورت قصير يلتف حوله الحزام، ليحظى بمظهر مشابه لعتاة المصارعين. أدرك أغلب هؤلاء الأطفال سريعا، خديعة الرجل الوطواط وسوبرمان الخيالية فما عادت تستهويهم، أهملوها واتجهوا بكل ثقة نحو الأبطال الأكثر واقعية و«الأجدر» بالمحاكاة والتقليد.
●●●
يؤكد بعض المتمرسين فى المشاهدة، أن المصارعة الحرة لا تعدو كونها مسرحيات سالفة الإعداد، كُتِبَت نصوصها واتُّفِقَ عليها قبل أن يصعد الممثلون إلى الحلبة، ويشرعوا فى أداء أدوارهم، لكن حقيقة الموت داخل المربع المحاط بالحبال تثير الشكوك. منذ فترة قصيرة توفى المصارع هارت أوين، ومثله إيدى جريرو، وقد أعلن مصارع آخر يُدعَى إيدج؛ اعتزاله اللعبة بعد ثلاثة عشر عاما متواصلة من القتال، بسبب إصابة خطيرة فى العمود الفقرى، أثرت على حركة ذراعيه وأفقدته القدرة على التحكم فيهما. ظهر إيدج أمام الجماهير للمرة الأخيرة ليؤكد أن المصارعة ليست تمثيلا، وأن المصارعين يتعرضون بالفعل لإصابات كثيرة قد تقعدهم تماما.
تُصَنَّفُ المصارعةُ الحرةُ كواحدة من الألعاب الرياضية، لكنها ولا شك تفتقر إلى الكثير من أخلاقيات الرياضة المألوفة التى درجنا عليها، فلا قيمة فيها للنبل أو التسامى أو الشرف، يضرب المصارعون بعضهم البعض من وراء الظهور، وأغلبهم يستخدم حِيَلا لا يُسمَح باستخدامها رغم أنوف الحكام، وحين يصاب أحد المتنافسين لا يتحرج الآخر من أن يقوم بالإجهاز عليه، بدلا من معاونته على النهوض، أو حتى الابتعاد عنه إلى أن يصبح قادرا على استئناف العراك، كما يحدث فى ألعاب قتالية أخرى، مات البعض على حلبة المصارعة وسوف يموت آخرون.
يُقَال إن استمراء مشاهدة العنف يدل على بعض سمات الشخصية، وأن محبى المناظر الدموية العنيفة والمهووسين بها، تكون لديهم جوانب ضعف خافية لكنها مؤثرة، وأنه كلما شعر المرء بالقوة وبالثقة فى نفسه، قَلَّ ميله لمتابعة تلك المشاهد وتراجعت حاجته إليها. يقال أيضا إن ثمة حالة من التوحد الوقتى تحدث بين الطرفين: (المُشاهد والبطل)، سواء من خلال الرياضات التنافسية العنيفة أو من خلال الأفلام والمسلسلات، وأن انتصار البطل قد يمثل تعويضا مناسبا للمُشاهِد، خاصة إذا كان لدى الأخير شعور مزمن بالعجز أو الفشل والضعف. يمكننا أن نلجأ إلى تحليلات كثيرة ومتنوعة، تفسر الانجذاب المتزايد إلى المصارعة، أقربها وأبسطها يتمثل فى انعكاس الواقع الذى يعيشه المرء على ميوله ورغباته، بحيث تتلون عناصر الحياة جميعها بصبغة واحدة: واقع عنيف، ميول عنيفة، ووسائل ترفيه دموية.
على كل حال، يظهر أبطال المصارعة أمام المتفرجين، وهم يحققون مجدهم باستخدام العنف المفرط غير المشروع، يطبقون طقوسهم وقوانينهم الخاصة، دون أن يتقيدوا بأية ضوابط أو قواعد حتى تلك المُتَّفق عليها سلفا، ومع كل الفجاجة والوحشية، يلاقى انتصارهم كثيرا من الارتياح والقبول، وكلما تخطوا المتوقع وكسروا حدودا لم يكسرها أحد من قبل، واقتربوا من لحظة القضاء على الخصم، كلما تماهى معهم المفترجون وتوحدوا، وزادوا من صيحاتهم المستدعية للمزيد، دقائق قد يستدعى فيها كل طرف إحباطاته وآلامه، وتوقه إلى وضع نهاية مناسبة، دقائق من التعطش لتحقيق انتصار كاسح وإنزال هزيمة مروعة، دقائق يصبح فيها كل شىء متاحا، حتى إنهاء حياة الخصم، لا خروج على النص.. ربما لأنه لا وجود لنص هناك.
●●●
يختار المصارعون ألقابا وملابس مميزة، وأقنعة يخفون بها وجوههم، وكذلك أدوات رمزية مخيفة يحملونها إلى الحلبة. تُعَوِّلُ اللعبة دائما على ابتداع أشكال جديدة من العنف للاحتفاظ بمريديها؛ وفى حين كان اسما المصارعين «هالك هوجان»، و«تيتو سانتانا» كافيين لإثارة حماس المتفرجين منذ سنوات مضت، فإن من يستجلب شهوة المشاهدة فى الفترة الحالية هو المصارع الأشهر والأضخم حجما، المعروف بلقب «أندرتيكر»، أو ما يمكننا أن نترجمه إلى: «الحانوتى» أو «متعهد دفن الموتى».
سواء كانت المصارعة الحرة حقيقة جنونية متوحشة، أو لقطات مسرحية شديدة الإتقان، فإن كم وشكل العنف الذى تقدمه يصل إلى الناس باعتباره واقعيا تماما، وهم بدورهم يستقبلونه بشكل عاد، ربما مثلما يستقبلون جولات المصارعة التى تجرى وقائعها منذ أشهر، على مستويات سياسية واجتماعية متعددة.