بموافقة مجلس النواب النهائية على قانون الهيئات القضائية فى ٢٦ ابريل ٢٠١٧ وبتصديق رئيس الجمهورية عليه وإصداره فى ٢٧ ابريل ٢٠١٧ (أصبح بعد صدوره القانون رقم ١٣ لسنة ٢٠١٧)، تقطع السلطة الحاكمة فى مصر خطوة إضافية باتجاه استتباع مؤسسات الدولة وتحديد أدوارها فى إطار من الخضوع التام للمكون الامنى. هنا توظف السلطة، من خلال المؤسسة البرلمانية، الأداة التشريعية للعصف باستقلال القضاء وللتنصل من مبدأ الفصل بين السلطات الذى ينص عليه دستور ٢٠١٤ (ونص عليه دستور ١٩٧١ وكذلك دستور ٢٠١٢) وتنتصر له العديد من أحكام المحكمة الدستورية العليا والمحاكم الإدارية.
قانون الهيئات القضائية، والذى مرره مجلس النواب على الرغم من رفضه من قبل مجلس الدولة، وصدق عليه رئيس الجمهورية على الرغم من معارضة نادى القضاة ودعوته إلى عقد جمعية عمومية غير عادية لمحكمة النقض، يعدل قوانين هيئة النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة وقانون السلطة القضائية وقانون مجلس الدولة على نحو يرتب تغول السلطة التنفيذية، على القضاء الذى يصير تعيين القائمين على هيئاته المختلفة صلاحية من بين الصلاحيات الرئاسية العديدة. فالقانون يعدل المادة رقم ٣٥ من قانون هيئة النيابة الإدارية (القانون رقم ١١٧ لسنة ١٩٥٨)، والفقرة الثانية من المادة رقم ١٦ من قانون هيئة قضايا الدولة (القانون رقم ٧٥ لسنة ١٩٦٣)، والفقرة الثانية من المادة رقم ٤٤ من قانون السلطة القضائية (القانون رقم ٤٦ لسنة ١٩٧٢)، والفقرة الأولى من المادة ٨٣ من قانون مجلس الدولة (القانون رقم ٤٧ لسنة ١٩٧٢) ليعطى رئيس الجمهورية صلاحية تعيين رؤساء النيابة الإدارية وقضايا الدولة ومحكمة النقض ومجلس الدولة. ينص القانون على أن تقوم المجالس العليا للهيئات القضائية بترشيح ٣ من بين أقدم ٧ نواب لرؤساء الهيئات الذين شارفوا على مغادرة مواقعهم، على أن ترسل هذه الترشيحات لرئيس الجمهورية لينتقى من بينهم من يعينهم كرؤساء جدد.
بذلك تتحول السلطة التنفيذية إلى الفاعل الأهم فى تحديد هوية رؤساء الهيئات القضائية، ويصبح بالتبعية أمر تعيينهم مجالا لبسط قوة رئيس الجمهورية ومعه المؤسسات الأمنية النافذة. تهمش صلاحيات المجالس العليا للهيئات القضائية وتخضع القاعدة الموضوعية المتمثلة فى الأقدمية إلى أهواء الحكم وأجهزته، ويزج باستقلال القضاء إلى هاوية سحيقة.
بل إن شبهة عدم الدستورية تلاحق القانون رقم ١٣ لسنة ٢٠١٧. فتقرير قسم التشريع فى مجلس الدولة بشأن القانون يشير إلى مخالفته للمادة الخامسة من الدستور التى تنص على قيام النظام السياسى فى مصر على «أساس التعددية السياسية والحزبية، والتداول السلمى للسلطة، والفصل بين السلطات والتوازن بينها، وتلازم المسئولية مع السلطة، واحترام حقوق الإنسان وحرياته». فالتنصل من مبدأ الفصل بين السلطات هو جوهر إعطاء رئيس الجمهورية صلاحية تعيين رؤساء الهيئات القضائية.
***
ويشير التقرير أيضا إلى التناقض بين القانون وبين القواعد المنصوص عليها دستوريا فيما خص تعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا والنائب العام. فالمادة ١٩٣ من الدستور تنص على كون المحكمة الدستورية العليا تؤلف «من رئيس، وعدد كاف من نواب الرئيس. وتؤلف هيئة المفوضين بالمحكمة من رئيس، وعدد كاف من الرؤساء بالهيئة، والمستشارين، والمستشارين المساعدين. وتختار الجمعية العامة رئيس المحكمة من بين أقدم ثلاثة نواب لرئيس المحكمة، كما تختار نواب الرئيس، وأعضاء هيئة المفوضين بها، ويصدر بتعيينهم قرار من رئيس الجمهورية». وفيما خص النيابة العامة، تنص المادة ١٨٩ من الدستور على أن «النيابة العامة جزء لا يتجزأ من القضاء، تتولى التحقيق، وتحريك، ومباشرة الدعوى الجنائية عدا ما يستثنيه القانون، ويحدد القانون اختصاصاتها الأخرى. ويتولى النيابة العامة نائب عام يختاره مجلس القضاء الأعلى، من بين نواب رئيس محكمة النقض، أو الرؤساء بمحاكم الاستئناف، أو النواب العامين المساعدين، ويصدر بتعيينه قرار من رئيس الجمهورية لمدة أربع سنوات، أو للمدة الباقية حتى بلوغه سن التقاعد، أيهما أقرب». صلاحية تعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا والنائب العام هى، إذن، للمجالس العليا للهيئات القضائية المعنية وليس لرئيس الجمهورية فى هذا الصدد سوى الصلاحية الشكلية المتمثلة فى إصدار قرارات التعيين.
غير أن المراقب لتوظيف السلطة الحاكمة للأداة التشريعية لاستتباع مؤسسات الدولة منذ ٢٠١٣ سرعان ما سيذكره قانون الهيئات القضائية بالقانون رقم ٨٩ لسنة ٢٠١٥ الذى أصدره رئيس الجمهورية (صدر كقرار رئاسى بقانون فى ١١ يونيو ٢٠١٥ قبل أن ينعقد مجلس النواب)، وصدق عليه مجلس النواب (بعد أن انعقد فى يناير ٢٠١٦)، وأعطى الرئيس بمقتضاه صلاحية عزل رؤساء الهيئات الرقابية والأجهزة المستقلة وقتما يشاء. القانون الذى يسرى على الجهاز المركزى للمحاسبات والبنك المركزى وهيئة الرقابة الإدارية والهيئة العامة للرقابة المالية استخدم فى ٢٨ مارس ٢٠١٦ لعزل المستشار هشام جنينة الرئيس السابق للجهاز المركزى للمحاسبات، وأضحى منذ إصداره وتطبيقه أحكامه للتنكيل بالمستشار جنينة وسيلة طيعة للغاية فى يد السلطة التنفيذية للتدخل فى أعمال الهيئات الرقابية والأجهزة المستقلة وإخضاعها لإرادة السلطة التنفيذية المنصوص دستوريا على خضوعها هى للرقابة المستقلة لهذه الهيئات وتلك الأجهزة.
***
والمراقب لتوظيف السلطة الحاكمة للأداة التشريعية سرعان ما سيكتشف أيضا أن أمور العصف باستقلال القضاء والتورط فى شبهات مخالفة الدستور تنصلا من مبدأ الفصل بين السلطات وكذلك العبث بهيئات كالجهاز المركزى للمحاسبات إنما تندرج جميعها فى سياق أوسع لإصدار قوانين جديدة وتمرير تعديلات قانونية من جهة تعيد صياغة علاقات القوة داخل بنى الدولة المصرية، من جهة أخرى تجدد دماء استبداد ما قبل يناير ٢٠١١ فى العلاقة بين الحكم وبين المواطن والمجتمع. منذ صيف ٢٠١٣ وإلى اليوم صدر أكثر من ٤٠٠ قانون جديد وتعديل قانونى توالى عليهم الرئيس المؤقت المستشار عدلى منصور ورئيس الجمهورية الحالى ومجلس النواب الحالى.
منذ صيف ٢٠١٣ وإلى اليوم وبعض هذه القوانين والتعديلات، أولا، توسع من سلطات وصلاحيات المؤسسات االأمنية على حساب المؤسسات المدنية. وأمثلة ذلك هى تعديلات قانون المنشآت العسكرية الصادرة فى أكتوبر ٢٠١٤، وقانون الإرهاب الصادر فى فبراير ٢٠١٥ والذى تتجاوز نصوصه المتعلقة بإدراج الأفراد والكيانات على قوائم الإرهاب دون عمليات تقاضى منضبطة أحكاما كثيرة للقضاء الإدارى وقضاء النقض تلزم بالتقاضى كشرط للإدراج وترفض الاكتفاء بآلية القرارات الحكومية أو آلية القرارات الثنائية للنيابة العامة ولغرف المشورة فى محاكم الاستئناف، وقانون الجمعيات الأهلية الذى أقره مجلس النواب فى نوفمبر ٢٠١٦ (لم يصدق عليه رئيس الجمهورية) ويحيل عمليا شأن الجمعيات والمنظمات غير الحكومية إلى العسكريين والأمنيين ويحد تماما من دور وزارة التضامن الاجتماعى (المصنفة كوزارة مدنية).
منذ صيف ٢٠١٣ وإلى اليوم وبعض هذه القوانين والتعديلات، ثانيا، يبتدع للسلطة الحاكمة وسائل إضافية لاستتباع مؤسسات الدولة ولإخضاع المواطن عصفا بحقوقه وحرياته المنصوص عليها دستوريا ولإسكات المجتمع قمعا. وإذا كان فى قانون الهيئات القضائية ومن قبله فى قانون الهيئات الرقابية والأجهزة المستقلة الدليل الواضح على استتباع المؤسسات وتغول السلطة التنفيذية، فإن قوانين كقانون التظاهر الصادر نوفمبر ٢٠١٣ (عدل فى ديسمبر ٢٠١٦ بعد حكم للمحكمة الدستورية العليا) وتعديلات كتعديل المادة ٧٨ من قانون العقوبات الذى مرر فى سبتمبر ٢٠١٤ (ومعهما بالقطع قانون الإرهاب وقانون الجمعيات الأهلية) تعصف بحق المواطن فى التعبير الحر عن الرأى وفى حرية التجمع السلمى والتنظيم، وتطلق يد السلطة التنفيذية فى التعقب والتنكيل والانتقام من المعارضين وأصحاب الآراء المغايرة وتوظيف العقوبات السالبة للحرية كوسيلة طيعة لكل ذلك. كما أن نفس القوانين والتعديلات القانونية ترتب عملا تجريم نشاط الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية العاملة فى مجالات حقوق الإنسان والدفاع عن ضحايا القمع وتحيط المجتمع بسياج من الخوف يقضى على حيويته ويجدد دماء استبداد ما قبل ٢٠١١ بنهج أكثر عنفا وأشد كارثية.