نشر المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية مقالا بتاريخ 26 إبريل للكاتبة مارى ماهر، تناولت فيه أهداف جولة بلينكن الأخيرة فى الشرق الأوسط (حضور القمة السداسية، زيارة رام الله والمغرب والجزائر). كما ناقشت إلى أى مدى نجحت هذه الجولة فى قلب التوجهات الإقليمية.. نعرض من المقال ما يلى.يشهد الشرقُ الأوسط حراكا دبلوماسيا مكثفا ينطوى على إعادة ترتيب التحالفات السياسية وسط مشهد جيوسياسى متغير، انعكس فى جملة الزيارات والاجتماعات متعددة الأطراف التى انعقدت خلال فترة زمنية قصيرة بدأت باستضافة الرئيس عبدالفتاح السيسى اجتماعا ثلاثيا مع ولى عهد أبوظبى الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ورئيس الوزراء الإسرائيلى نفتالى بينيت فى شرم الشيخ يوم 22 مارس الماضى، تلاه اجتماع رباعى استضافه العاهل الأردنى الملك عبدالله بمدينة العقبة يوم 25 مارس ضم إلى جانب الرئيس السيسى والشيخ محمد بن زايد رئيس الوزراء العراقى مصطفى الكاظمى، وتُوج هذا الحراك بجولة وزير الخارجية الأمريكى أنطونى بلينكن الذى توقف فى إسرائيل يوم 29 مارس ليشهد قمة سداسية جمعت وزراء خارجية إسرائيل والإمارات والبحرين ومصر والمغرب، وانعقدت للمرة الأولى فى منزل ديفيد بن جوريون مؤسس وأول رئيس وزراء لإسرائيل ببلدة سدية بوكير الصحراوية، بما يحمل دلالات رمزية بشأن شكل التحالفات الأمنية والتوجهات السياسية فى المنطقة. وأعقب قمة النقب استكمال بلينكن جولته الشرق الأوسطية بزيارة رام الله ولقاء الرئيس محمود عباس، قبل التوجه إلى المغرب والجزائر للقاء قادة البلدين.
• • •
ينطوى توقيت محطات جولة بلينكن على دلالات مرتبطة بتزامنها مع إعادة ترتيب المشهد الجيوسياسى الإقليمى استجابة للتغيرات الدولية والإقليمية المتعلقة بالحرب الروسية الأوكرانية، ومساعى إعادة إحياء الاتفاق النووى الإيرانى، وتنامى النفوذ الصينى، مما يجعلها تحمل رسائل محددة يمكن استعراضها فيما يلى:
• إدماج إسرائيل فى المعادلة الأمنية الشرق أوسطية الجديدة: ينطوى اختيار إسرائيل كمحطة أولى لجولة بلينكن الإقليمية واستضافتها لاجتماع النقب، وليس إحدى الدول العربية الموقعة على اتفاقيات أبراهام عام 2020، على دلالات مرتبطة بإعادة تموضعها داخل المعادلة الأمنية الجديدة التى تتبلور وتتشكل ملامحها تدريجيا خلال المرحلة الراهنة باعتبارها لاعبا إقليميا بات مقبولا عربيا.
وهكذا، تتطلع الولايات المتحدة لاستثمار تلك المتغيرات الجديدة التى عبرت عن نفسها فى توقيع اتفاقات أبراهام لتثبيت الاندماج الإسرائيلى عربيا وربما تفويض بعض التزاماتها الأمنية تجاه الشرق الأوسط إلى الحليف الإقليمى الأصغر أو جعله جسرا بين بعض العواصم العربية وواشنطن، لا سيما أن أغلب الدول المشاركة فى اجتماع النقب لديها تحفظاتها الخاصة ضد إدارة بايدن وتنظر لإسرائيل باعتبارها قناة تواصل مهمة مع البيت الأبيض. وليس أدل على مسعى واشنطن لجعل إسرائيل رقما مهما فى المعادلة الأمنية العربية من إعلان اجتماع النقب منتدى دائما يطلق عليه «منتدى النقب» يجتمع دوريا لبحث القضايا الإقليمية.
• احتواء التحركات العربية الإسرائيلية المنفردة: أظهرت الأزمة الأوكرانية اتساع الهوة بين الولايات المتحدة وحلفائها الشرق أوسطيين، وبالأخص الخليجيين؛ إذ يُمثل إحجام السعودية والإمارات عن تلبية النداء الأمريكى بزيادة إمدادات النفط تحولا عن سياسة الثمانينيات عندما رفعت المملكة إمدادات النفط بناء على طلب واشنطن لإضعاف الاتحاد السوفيتى.
وقد أبدت الكثير من الدول العربية استياءها لفشل الولايات المتحدة فى أخذ مصالحها ومخاوفها الأمنية بعين الاعتبار منذ تغيير رؤيتها المتعلقة بمكانة ودور الخليج فى استراتيجيتها العالمية والتى أصبحت أكثر وضوحا منذ تولى بايدن منصبه وانسحابه العشوائى من أفغانستان وتخليه عن الأصول الأمريكية فى المنطقة. وهكذا وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام جبهة دبلوماسية شرق أوسطية تتشكل دون مشاركتها بل إن أطرافها يحملون انزعاجا من السياسات الأمريكية، وبالتالى فإنها إمام خيارين: إما الحفاظ على وجود إقليمى لحماية مصالحها عبر تقديم تطمينات حقيقية وضمانات أمنية للحلفاء، وإما الاستعداد لشرق أوسط تركز دوله على استقلالها الاستراتيجى وتحدد أولوياتها وفقا لمصالحها دون اعتبار للمصالح الأمريكية.
• تهدئة المخاوف بشأن المُهدد الإيرانى: كان العنوان الرئيسى لجولة بلينكن طمأنة الشركاء الإقليميين بشأن الهواجس الأمنية المرتبطة بالاتفاق النووى الوشيك مع إيران، الذى تعتبره القوى الإقليمية تحولا للرؤية الأمريكية بشأن مصادر التهديدات الإقليمية، وتفكيكا للنموذج الأمنى الذى رسخته واشنطن منذ عقود القائم على احتواء المهدد الإيرانى؛ فإحياء الاتفاق يعنى السماح لإيران بتطوير برنامجها النووى وإعطاء دفعة لمشروعها التوسعى مدفوعة بقبول عضويتها داخل المجتمع الدولى والإفراج عن مليارات الدولارات التى ستتدفق بسخاء على الجماعات الإقليمية الوكيلة كحماس وحزب الله والحوثيين والحشد الشعبى وغيرهم، مما يتسبب فى مزيد من الأنشطة المزعزعة للاستقرار بالمنطقة.
لكن الهاجس الأكبر بالنسبة للاعبين الإقليميين هو الأنباء المتصلة بدراسة إزالة الحرس الثورى من قائمة واشنطن للمنظمات الإرهابية الأجنبية. فالحرس الثورى يشكل تهديدا فوريا فى ظل خدمة كبار ضباط الحرس داخل السفارات الإيرانية بجميع أنحاء الشرق الأوسط وتدفق الأموال على شبكات وكلائه. لذلك، سعت جولة بلينكن لإطلاعهم على المراحل النهائية للمفاوضات النووية، وطمأنتهم بأن واشنطن لن توافق على مطالب إيران برفع تصنيفها للحرس الثورى كمنظمة إرهابية أجنبية.
• توظيف ورقة الشرق الأوسط ضد روسيا: أراد بلينكن إرسال رسالة إلى موسكو مفادها أن الولايات المتحدة ما زالت ممسكة بورقة الشرق الأوسط وقادرة على تحريكها بشكل يخدم مصالحها الاستراتيجية العليا، وجعلها رقما مهما فى معادلة الاشتباك الجيوسياسى بين القوى الكبرى لإعادة تشكيل النظام الدولى، عبر محاولة إقناع الحلفاء الإقليميين بالاصطفاف إلى جانب الموقف الغربى بعدما فشلت واشنطن فى حمل إسرائيل ودول الخليج على دعم العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، مفضلين التحرك خارج الغطاء الأمريكى واتباع سياسة حيادية تجاه الحرب الأوكرانية.
• الإقرار بعدم واقعية الانسحاب الأمريكى: أبرزت الأزمة الأوكرانية أهمية الشرق الأوسط المركزية فى المنافسة العالمية مع روسيا والصين، ويرجع ذلك لعاملين أساسيين: أولهما النفط الذى يشكل عنصرا محوريا لنجاح مخطط تطويق موسكو وإضعافها، فقد أظهرت الإمارات فى منتصف مارس الماضى مدى أهميتها لسوق النفط العالمى بعدما تسبب إعلان سفيرها فى واشنطن يوسف العتيبة اعتزام بلاده ضح المزيد من النفط فى الأسواق العالمية فى أكبر خفض للأسعار خلال يوم واحد منذ ما يقرب من عامين. وثانيهما الحضور الصينى والروسى الكبير فى المنطقة الذى يجعل مواجهتهما لا تقتصر على المحيط الهادى وأوراسيا، وإنما تمتد إلى ساحات الانخراط المصلحى البعيدة جغرافيا، وهو ما يجعل إهمال المنطقة كلية ترفا لا تستطيع الولايات المتحدة تحمل تبعاته.
• • •
لم تنجح جولة بلينكن فى قلب التوجهات الإقليمية الجديدة التى حكمت سلوك الدول العربية تجاه التعاطى مع المتغيرات الدولية الجديدة، ويرجع ذلك لأسباب نذكر منها:
• اهتزاز الثقة فى الالتزامات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط: تشعر الدول العربية بأن الولايات المتحدة تتخلى عن دورها التقليدى كضامن لأمن الشرق الأوسط، وتقلل اهتمامها بتقييد نشاط الجهات المزعزعة للاستقرار مثل إيران طالما لا تتجاوز الخطوط الحمراء للمصالح الأمريكية بالمنطقة، لصالح إعادة توجيه سياستها الخارجية نحو التنافس مع الصين وروسيا.
ولعل رد الفعل الأمريكى المتأخر على هجمات الطائرات بدون طيار والصواريخ الباليستية المتكررة ضد المدن والمنشآت النفطية الإماراتية والسعودية، كاشف عن تغير الرؤية الأمريكية بشأن طبيعة المهددات الإقليمية ومستويات الانخراط المطلوبة لمجابهتها، كما أنه رسم التصورات الشرق أوسطية لحدود الشراكة والتعاون المستقبلى مع الولايات المتحدة، وقاد الدور الرئيسية بالمنطقة للشعور بالانكشاف الاستراتيجى وفقدان الموثوقية فى الشراكة الأمنية الأمريكية، وتعزيز توجه الاعتماد على الذات وتبنى مسارات مستقلة بعيدا عن الولايات المتحدة.
ومن جهتها، لا تزال الجزائر تشعر بقلق عميق إزاء رفض بايدن التراجع عن اعتراف سلفه دونالد ترامب بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية المتنازع عليها، فيما يشعر المغرب بالإحباط كون بايدن لا ينوى تجاوز مقايضة ترامب (الاعتراف مقابل التطبيع) نحو اتخاذ خطوات سياسية باتجاه فرض سيطرته الفعلية على الصحراء.
• الالتزام بمبدأ الحياد السياسى: فشلت جولة بلينكن فى حشد التأييد العربى للموقف للأمريكى مع تمسك الدول العربية بمبدأ الحياد السياسى وعدم الانحياز لأى طرف، فى إطار قواعد التحوط الاستراتيجى الذى يتيح لها تأمين مصالحها مع الأطراف المتعارضة، ويمنحها قدرة على المناورة وطرح نفسها كوسطاء للتسوية، وتفعيل مبدأ الاعتماد على الذات والتحرك بقدر أكبر من الاستقلالية عن الولايات المتحدة اتصالا بحالة انعدام الثقة المشار إليها سلفا.
وبالمثل، تحاول الجزائر الحفاظ على التوازن بين روسيا والولايات المتحدة بما يتفق وسياستها الخارجية القائمة على مبدأ الحياد فى النزاعات الدولية ورفض دبلوماسية المقايضة. ويبدو أن بلينكن فشل فى حملها على إعادة النظر فى موقفها إزاء علاقاتها بروسيا، فعقب انتهاء الزيارة شدد المبعوث الخاص المكلف بملف الصحراء الغربية ودول المغرب العربى بوزارة الخارجية الجزائرية عمار بلانى، على أنه لم يرد فى حديث وزير الخارجية أنتونى بلينكن، أنه دعا الجزائر إلى الحد من علاقاتها مع روسيا والعمل على تحسين علاقاتها مع الجارة المغرب.
• رفض زيادة إمدادات الطاقة: تمسكت الدول الخليجية برفض الدعوات الأمريكية المتكررة لزيادة إنتاج النفط بشكل كبير، وبعد يوم واحد من مغادرة بلينكن الشرق الأوسط وافقت أوبك+ على زيادة متواضعة فى إنتاج النفط متجاهلة الضغط الغربى لرفع الإنتاج.
ختاما، عكست جولة بلينكن الشرق أوسطية تحولات فى بنية النظام الإقليمى الذى يُعاد ترتيبه حاليا على وقع المتغيرات الدولية والإقليمية التى ستفرض تحديات أمنية وسياسية بعيدة المدى دفعت القوى الرئيسية بالمنطقة لإدراك تعاملها مع واقع مختلف يتطلب منها إعادة صياغة توجهات سياستها الخارجية بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.
النص الأصلى: