للحياة مفاتنها الخاصة، أشياء تكسبها طعما ورونقا، ربما تكون عابرة، تأتى وتذهب فى ومضة عين لكنها تُعيد صياغة رؤيتنا لكل ما يحيط بنا، تجعلها أكثر رحابة، وتجعلنا أقل تشاؤما. أشياء متناهية الصغر تصنع فارقا هائلا فى أيامنا، نظرة أو ابتسامة أو كلمة قد تبدلنا من حال إلى حال، تحول المزاج والمشاعر إلى النقيض فى ثوان.
بين الحين والآخر كنت أصادفها تحمل رضيعتها. على المقعد نفسه لم تكن جلستها تتغير أبدا: ظهرها متصلب ورأسها منحن، تنظر إلى بلاطات الأرض ولا تتحرك إلا حين يحتاج غطاء الطفلة المثقوب إلى تعديل وضعه، أو عندما تسمع اسمها فتنهض لتتسلم الحصة الشهرية المعتادة ثم تنصرف. ظللت أراها فى نفس المكان لسنتين كاملتين لم تبتسم خلالهما ولو مرة واحدة. لم تنظر إلى أبدا، ولا لأى أحد حاول أن يتواصل معها أو أن يجذبها إلى حوار عادى. كانت تبدو عجوزا رغم الطفلة الحابية التى ترضعها، متجهمة وبعيدة.
للحظة قصيرة خلال إحدى مرات زيارتها، تحولت إلى شابة جميلة ضاحكة، لحظة تخلت فيها عن الشفتين المزمومتين وظهرت أسنانها البيضاء المحبوسة. ذابت من ملامحها التقطيبة وانصهر الجمود.
لحظة قصيرة توهجت فيها المرأة بفرحة حقيقية ودافئة. نَسيَت أنها لا تملك مورد رزق، لا تعرف مكان زوجها المفقود، لم تُقبَلُ أوراقُ هجرتِها بعد، وأنها ههنا لاجئة وحيدة وضعيفة. نسيت ذلك كله لسبب لم أكن أبدا أتخيله.
جاء أحد مسئولى المكان فى ذاك اليوم بكومة من الأغراض المستعملة وطلب منها أن تختار شيئا واحدا تحتاج إليه. فتشت بعينيها الباهتتين ثم انحنت وتناولت حقيبة برتقالية قديمة. نظرت إليها مليا ثم سألته فى تشكك واضح: آخذها؟.. حين تأكدت أن الحقيبة قد صارت لها، رفعت رأسها وخرجت ضحكتها للمرة الأولى. وضعت الرضيعة النائمة على الكنبة وتفرغت بكل كيانها وحواسها لتغوص فى اللون البرتقالى وقد حلَّت على وجهها ابتسامة عريضة وسعت المكان بمن فيه.
رحت أتأملها وأفكر فى الأمر: المرأة التى ظلت منزوية فى داخلها لشهور وربما سنوات والتى لم تلتفت من قبل لكل محاولات الملاطفة والتواصل والترحيب، حتى يظن من يعرفها أن ملامحها لن تنفرج أبدا، أخيرا قد استجابت. شىء لا قيمة له لدى بشر كثيرين جعلها تتألق بلمعة عينين لا تخفى، بنبرة صوت جلجلت كما الأجراس، وبكلمات امتنان تدفقت بعد طول صمت.
●●●●
أحيانا ما نمر بأحداث كبيرة لا تؤثر فينا تأثيرا ظاهرا، بينما أخرى صغيرة تقع فتمنحنا شحنة من التفاؤل.. تهدينا حماسا لبداية جديدة، تجعلنا نفكر أن ثمة حياة ملونة بغير الأبيض والأسود يمكننا أن نحصل عليها، وأن هناك أشياء فقدناها نستطيع أن نستردها مرة أخرى. بالنسبة للمرأة الوحيدة لم يبد أنها قد فكرت كثيرا، لكن الأكيد أنها كانت تقفز هنا وهناك وتتصرف كما يفعل الصغار حين يحصلون على لعبة جديدة، هو جزل الأطفال اللذيذ، يفرحون سريعا ودون حدود، تخرج ضحكاتهم سهلة وحقيقية. سعادتهم لا يمكن التشكيك فيها ولا التفتيش عن مصدرها، فلا أوقات معلومة لها ولا أسباب يمكن بالضرورة فهمها أو استساغتها. السعادة الداخلية من العسير حسابها أو التنبؤ بها: لا منطق مستقيما ولا نتائج مترتبة على معطيات.
حين نكبر تقل الأشياء القادرة على إبهاجنا وتتراجع، نندمج فى علاقات وحسابات معقدة ونفقد التلقائية، تستغرقنا التفصيلات المتشابكة وتمتصنا داخلها، فلا نتمكن من استقبال المؤثرات البسيطة التى ربما تكون أكثر عمقا وجمالا.
قليلون هم من يظلون محتفظين بسريرة صافية، بروح الفرح الطفولية. قليلون هم، القادرون على التقاط البهجة من الهواء المحيط، وعلى التمتع بتلك السعادات الصغيرة التى تنبعث من ركن خفى لا يراه الآخرون.
رغم أننا قد نخجل فى بعض الأوقات من الإعلان عن مشاعرنا، عن فرحة صغيرة تولدت داخلنا، نفكر أن سببها قد يبدو تافها وسخيفا فنهملها حتى تذوى وتختفى، ورغم أننا فى أوقات أخرى قد نؤجل الاحتفاء والفرح بدعوى الانتهاء من مسئوليات لا تنتهى، ورغم أننا جميعا نلهث مع إيقاع الحياة السريع ونعانى عدم القدرة على التقاط الأنفاس، مع ذلك تبقى داخلنا مستقبلات الفرح، تبقى حساسيتنا للأشياء الصغيرة التى طالما أسعدتنا. يتوهج داخلنا جزء ذاتى وينتفض حين تمسه شذرات من مباهجنا القديمة، يتألق بعيدا عن الآخرين وبمعزل عن المنغصات والضغوط التى تملأ أيامنا. جزء نجهل أنه هناك حتى يُستَثار ويدفعنا إلى التفاعل، يعطينا نكهة حميمة.. دون تعمد أو قصد.
هل نحتاج فى بعض الأحيان لأن ننسل من وسط الهموم، نترك أنفسنا قليلا دون حسابات متواصلة، نتخفف من الرتوش، نفتش عما تاه، نسمح لمشاعرنا بالوجود والتحقق، نعطيها مساحة عادلة وسط مشاغلنا التى تتواصل دون انقطاع؟. هل نحتاج فى بعض الأحيان إلى هدنة لا نتساءل فيها لعشرات المرات عن النتائج والعواقب المحتملة، وعما سوف يراه فينا الناس، نتريث قليلا، ونجرب الوقوف أمام الأشياء التى نعبرها دون اهتمام ودون تركيز؟ نلتفت إليها علَّها تزيل الغبار والصدأ الذى يتراكم فوق مستقبلات الفرح والسعادة فيعيق عملها؟
ربما نفعل بقليل من الرغبة والإرادة، وننقل سعادتنا إلى المحيطين، فالفرح فى بعض الأوقات مرضٌ مُعدٍ. فرحة المرأة الوحيدة بحقيبة قديمة، تخلصت منها صاحبتها بعد أن لم تعد لها حاجة بها، انتقلت إلىّ وإلى الجميع، جعلتنى ابتسم فى سعادة بعد أن زالت من ملامحها تجاعيد العبوس. البشر قادرون على تجاوز الآلام، وهم أيضا قادرون على اقتناص مسببات السعادة مهما تاهت وسط الزحام، بل على إعادة خلقها من جديد. أشياء كثيرة وصغيرة نملكها بين يدينا، قادرة على منحنا أياما طازجة. أن يفرح المرء فإنما يؤكد وجوده وإنسانيته، يعلن أنه حىّ وأنه قادر على الانتصار.