كلما ازداد الضجيج فى الدماغ أفرغت بعض محتواه، هكذا أنت أو هكذا تحاول أن تمسح بعضا مما علق بأجزائه، أن تصنع فراغات تبقى مخبأة لساعات قد تأتى أو ربما لسويعات.. ازداد الضجيج القادم منهم، الآخرون هم أم أنهم أنت التى أصبحت.. تخبئ بعض الفرح للأيام الخوالى وهى التى يتحول فيها الزمن إلى هواء ثقيل يصعب عليك استنشاقه.. هناك عند تلك اللحظة تتحرك سريعا للبحث عن شىء ينير هذا الظلام الحالك.. هى أيام صعبة، تطمئن نفسك.. هى الأيام الأصعب.. لا.. لا تعود لتكرر فى كل مرة شيئا ما يذكرك بأن هذه الصور ليست بالجديدة وهذا حوار قديم بل هو حوار «بايت» كنت قد سمعته منك قبل الآن.
تستفيق على أصوات القتل القادم فى صور سريعة على التلفاز، تمسك بالريموت كونترول وشىء ما يذكرك بأنك تملك المصير كله عبر هذه الإدارة المتواضعة جدا، ببساطة شديدة غير المحطة.. وهكذا تفعل ولكن تطاردك الصور القادمة من كل مكان.. هذا وطنك الممزق من القلب إلى القلب.. فى كل مدينة جثث ودماء وفى كل شارع طائفة تطارد أخرى.. مازالت ذاكرتك متخمة بالصور المتلاحقة.. جثث كانت هناك لنساء بطونها منتفخة وأطفال عيونها تتطلع إلى القادم الذى لم يأت.. تعيد الانتقال إلى محطة أخرى إلى تلك التى ترفض نقل صور الجثث والأشلاء لأن جثث نسائنا وأطفالنا تخدش أيامهم.. ماتزال الصورة هى الصورة.. يبحث مراسلهم عن مبنى لم تطله قذيفة أو صاروخ وعن زاوية للكاميرا لا تخدش «حياءها» جثث رجال كانوا هنا لم يحملوا السلاح ولكنهم فقط كانوا هنا.
تعيد تكرار مسح الصور لقد امتلأ الدماغ بهذه المشاهد المؤلمة حد الصمت.. لا نواح ولا بكاء بعد اليوم فمن أين تأتى الدموع بعد أن أصبح لكل بيت قصة موت، ولكل شارع قصة حرب، ولكل مدينة حكاية شعب كان.. هنا كنا نحتسى الشاى فى مساءات أيامنا ورائحة الياسمين تطعم الأوقات بكثير منها.. كثير من مدننا كانت تسمى بأسماء زهورها.. أصبحت لا رائحة لها سوى البارود والدم.. كثير منه نقى هو وبرىء منهم.. بأسماء كثيرة تسقى الأرض به لأناس لم يعرفوا يوما أن شمسهم قد خدشت.. وأن نساءهم سيصبحن للمرة الألف بعد المليون هن سبايا هذه الحروب.. ضحاياها الأوائل هن وأطفالهن من الفتيات قبل الفتيان يجلسن.. يدفعن ثمن حروب لم يبدأنها هن طبعا ولم يكن طرفا فيها.. هن أى نساؤنا اللاتى منذ قريش حتى اليوم الأخير فى أجندة الكون هن السبايا والضحايا والثمن.. تحمل كل واحدة طفلا فيما الأربعة الآخرون يتحلقون حول ثوبها.. كل منهم يمسك بطرف وكأنها الضحية والمخلص معا.. هى الضحية وهى المخلص نعم!
تعود لماسح الذاكرة الخارق الذى تتصور أنه قادر على خلع الصور من جذور الدماغ المتخم بها.. كيف كانت صبرا وشاتيلا الأكثر ألما وكيف كان العدو هو الآخر ومن ثم عاد ليقترب حتى أصبح هو الأخ والرفيق وزميل المدرسة وذاك الذى كان مثلى ضحية للفقر والجهل معا أكثر الأمراض استعصاء حتى على الانبياء!.
لن تفيدك التكنولوجيا فى نقل الصور ولا ماسحة الذاكرة الخاصة بك.. هى الصور تطاردك دوما حتى وأنت تقف هناك عند حافة تلك النافورة والجمع كبير والبشر جاءوا من كل بقاع الأرض إلى هذه المدينة المتحف، حيث ما إن تميل برأسك حتى يطاردك التاريخ الجميل منه والكولونيولى أيضا.. ولكن هناك وبتلك المدينة تجد أشباح نساء العرب واطفالهن ورجالاتهن ضحايا العنف معك.. ربما تسللوا إلى حقيبة سفرك ربما! أو أنهم علقوا بجلدك فكلما رأيت الياسمين يزين شوارع روما تحن إلى ياسمين الشام ذاك الذى قال فيه نزار الكثير.. ذاك الذى استبدل لونه بلون الدم الأحمر القانى.. ذاك الذى قتلته قذائفهم مع الآلاف من الأحبة الذين رحلوا سريعا قبل أن يأتى ندى الصباح الخفيف ليسقط قطرة قطرة فتتفتح زهرة الياسمين على الكون.. تقف على حافة النافورة الرخامية والتماثيل العارية تزينها، وضحكات صبايا الفرح معها تدير ظهرك لها تلقى بالعملة النقدية وتفكر لحظة ما هى الأمنية الأكثر إلحاحا عليك الآن؟ تعيد التفكير.. لا جواب عن سؤالك سوى أمنية أن تتوقف تلك الصور التى تطاردك، أن تحمل حقيبة سفر دون الجثث المقطعة الأوصال أو ألا ترى نساءنا فى سوق النخاسة، ألا نسقى الياسمين بدمائنا.. أن تعود الشام وبغداد كما كان فى تلك الأنشودة وأنت فى أول أيام العمر.. أن تغتسل المدن من رائحة البارود العالقة بها وتتطهر من جاهلية القرن الواحد والعشرين بعد!.