فى ١٩٥١، نشر للفيلسوفة حنا أرندت كتابها الأشهر «أصول الشمولية» باللغة الإنجليزية (كان «أصول الشمولية» هو عنوان طبعة الكتاب التى صدرت فى الولايات المتحدة الأمريكية. أما طبعته التى صدرت فى بريطانيا، فعنونت «عبء زماننا» متماهية مع معاناة البريطانيين وغيرهم من الأوروبيين من جراء الدمار الذى أنزلته بهم حرب عالمية أشعلتها بين ١٩٣٩ و١٩٤٥ الشمولية فى نسختها النازية. ثم فى ١٩٥٥، ترجمت أرندت كتابها إلى اللغة الألمانية وأعطته عنوانا ثالثا هو «عناصر وأصول الحكم الشمولى»).
وفور نشره، أحدث الكتاب جدلا واسعا بين الفلاسفة وعلماء السياسة المهمومين بدراسة أسباب نشوء الأنماط غير الديمقراطية للحكم وتشريح طبائعها وأفعالها وتفسير بداياتها ونهاياتها، وبين السياسيين الباحثين عن فرص انعتاق المجتمعات البشرية من شرور ودمار الشمولية. فكتاب أرندت تناول ثلاثة قضايا شائكة هى المسألة اليهودية والعداء للسامية فى أوروبا، والأسس الشمولية والعنصرية للتوسع الاستعمارى الأوروبى فى القرنين التاسع عشر والعشرين، وطبائع الحركات والحكومات الشمولية فى القرن العشرين ممثلة فى ألمانيا النازية وروسيا الشيوعية. فى عالم ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، فى عقد الخمسينيات الذى صارت به الجرائم ضد الإنسانية التى ارتكبتها القوى الاستعمارية (كما فى جنوب إفريقيا والجزائر) عصية على الإنكار واتضحت به الأبعاد الكاملة لجريمة الهولوكوست المروعة (محرقة اليهود) ووحشية النازيين المدفوعة بخليط من العداء للسامية والإيديولوجية العنصرية وكذلك أوجه التشابه الكثيرة بين القتل الجماعى فى محارق النازية التى أسميت «معسكرات العمل» وفى غولاغ الشيوعية الستالينية الذى تراوحت مسميات معسكراته بين الاعتقال وإعادة التأهيل والعمل، فى عالم الخمسينيات لم يكن تناول أرندت ذات الأصول الألمانية والهوية الدينية اليهودية لمثل هذه القضايا التى كانت عن حق «قضايا العصر» سوى ليحدث جدلا فكريا وسياسيا واسعا.
وأسهم فى الجدل حول الشمولية العديد من الفلاسفة وعلماء السياسة الألمان وذوى الأصول الألمانية إن أولئك الذين لم تجبرهم النازية على مغادرة البلاد كالفيلسوف (والمعالج النفسى) كارل ياسبرز أو نظرائهم ممن اضطروا للارتحال بعيدا وطرق أبواب المنافى (خاصة المنفى الأمريكى) كالفيلسوف هربرت ماركوزه وعالم السياسة ايريك فوجلين. إسهامات ياسبرز وماركوزه وفوجلين وغيرهم من الألمان وسمها، بجانب عمقها الفكرى والسياسى، حضور البعد الشخصى ــ الإنسانى المتمثل فى اصطدامهم المباشر بطبائع وأفعال الحكم النازى، وحيرتهم المعرفية والوجودية إزاء الصعود السريع للنازية فى ألمانيا ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية وانهيار منظومات الأفكار الليبرالية واليسارية فى مواجهة مقولات العداء للسامية والعنصرية التى روجت لها أجهزة الدعاية النازية والتأييد الشعبى الكبير الذى تمتع به النازيون والجرائم المروعة التى ارتكبتها دون مقاومة مجتمعية تذكر مؤسساتهم العسكرية والأمنية والاستخباراتية، وتورطت بها أيضا السلطات العامة التى استتبعتها النازية كالقضاء والبيروقراطية الحكومية والمصالح الصناعية والمالية الكبرى التى تواطأت مع النازيين طلبا للربح. اختلف الألمان المشاركون فى الجدل حول الشمولية فيما بينهم، واختلفوا بينهم وبين حنا أرندت بشدة. وتراوحت شروحهم للنازية من بحث عن أصولها فى عسكرة الدولة الألمانية الحديثة منذ نشوئها فى ١٨٧١ وفى التداعيات الكارثية للهزيمة فى الحرب العالمية الأولى (١٩١٤ــ ١٩١٨) والكساد الاقتصادى فى العشرينيات والثلاثينيات، مرورا بالدفع بكون عجز الألمان فى القرنين الثامن والتاسع عشر عن إقامة نظم حكم ديمقراطية (إن ملكيات دستورية أو حكومات نيابية) فى الدويلات الكثيرة التى غطت إقليمهم (دويلات ما قبل الوحدة فى ١٨٧١) هو المسبب الرئيسى لصعود النازية شأنه شأن عجز المجتمع الألمانى عن حسم «المسألة اليهودية» على نحو يغلب الهوية الوطنية وحقوق المواطنة على التمايزات العرقية والدينية، وصولا إلى التشديد على أن الانهيار التدريجى للدور المجتمعى للقيم الدينية (القيم اليهودية ــ المسيحية) الذى حدث أيضا فى القرنين الثامن والتاسع عشر مثل جذر توحش وعنف النازية وأساس شيوع العداء للسامية والعنصرية فى القرن العشرين.
***
اختلف الفلاسفة وعلماء السياسة الألمان الذين شاركوا فى الجدل حول الشمولية. ولم يغب عن إسهاماتهم لا النقد الصريح لأفكار أرندت، ولا تفنيد الفيلسوفة الموضوعى لشق من دفوع وشروح نقادها وقبولها العلنى لشق آخر، ولا استدعاء كثيرين لخبراتهم الشخصية فى التعامل مع النازية ومعاناتهم إن كضحايا وذوى ضحايا أو كقريبين (أسريا ومهنيا) من مرتكبين لجرائمها (فآلة القتل النازية أديرت بمشاركة ملايين الألمان وبشبكة معقدة من السلطات العامة والمؤسسات والأجهزة الحكومية والمصالح الخاصة). غير أن اللافت للنظر هو أن الجدل حول الشمولية اكتسب، على الرغم من صعوبته الفكرية والسياسية والإنسانية، طابعا أكاديميا راقيا رتبه ١) الامتناع الجماعى للمشاركين فيه عن إطلاق ادعاءات امتلاك الحقيقة المطلقة، ٢) ابتعادهم عن تسفيه دفوع وشروح نظرائهم مهما تناقضت الرؤى والأطروحات، ٣) تعففهم عن توظيف الأمور الشخصية (بقاء هذا فى ألمانيا إبان النازية وصمته عن جرائمها فى الثلاثينيات والأربعينيات، ورحيل ذاك إلى المنفى الأمريكى مستبدلا بمقاومة النازية طوق النجاة الفردية والنقد عن بعد، واستدعاء ثالث للعداء للسامية كإطار وحيد لتفسير صعود النازية وللهولوكوست كجريمتها الوحيدة على الرغم من وحشيتها الشاملة) لنزع الشرعية الأخلاقية والعلمية عن المختلفين معهم، ٤) رغبتهم الأصيلة والجادة فى توظيف جدلهم حول الشمولية لممارسة الاختلاف فى الرأى الممهور بالتسامح وقبول الرأى الآخر ولصياغة فهم موضوعى ودقيق لأسباب نشوء الحكومات الشمولية وطبائعها وأفعالها وسبل الانعتاق منها.
فى خمسينيات القرن العشرين، قدم «ألمان الجدل حول الشمولية» نموذجا مبهرا لدور الفلاسفة وعلماء السياسة فى تناول «قضايا العصر الكبرى» دون تحايل أو تأجيل. قدموا نموذجا مبهرا لتقديم الصالح العام المتمثل من جهة فى فهم موضوعى للشمولية التى أسقطت ملايين الضحايا ودمرت مجتمعات عديدة ومن جهة أخرى فى نشر وعى نقدى بين الناس بشأن شرور الشمولية وحتمية مواجهتها، قدموا هذا الصالح العام على تهافت التورط فى ادعاءات فردية بامتلاك الحقيقة المطلقة لم يكن لها غير أن تنتج إسهامات مشوهة لأكاديميين مشوهين أو فى تسفيه مريض للمختلفين معهم بتوظيف مفاهيم رنانة (كالواقعية هنا والمنهجية العلمية هناك) لم يكن لتوظيفها فى سياق الجدل المجتمعى بالغ الأهمية حول الشمولية سوى أن يعنى أنهم لم يدركوا منها سوى القشور.
خلال الأيام الماضية، قرأت بعض إسهامات «ألمان الجدل حول الشمولية» مستغلا توفر مكتبات جامعة ستانفورد على مؤلفات حنا أرندت وكتابات نقادها فى سنوات الخمسينيات مثل كارل ياسبرز وايريك فوجلين، وكذلك توفر المراسلات الشخصية بين الفيلسوفة ومعاصريها فى ذات السنوات (والكثير من تلك المراسلات نشر باللغة الألمانية فى كتيبات نادرة اقتنتها مكتبات ستانفورد الرائعة). خلال الأيام الماضية، لم أتوقف أثناء القراءة عن المقارنة بين جدل الفلاسفة وعلماء السياسة الألمان وذوى الأصول الألمانية حول النازية التى خرجت من بين ثنايا مجتمعهم لتفرض شرورها ومحارقها ودمارها على العالم وشروعهم بعد سنوات قليلة من هزيمة النازية وجرائمه فى البحث الجماعى عن فهم موضوعى للشمولية وفى الإسهام فى بناء وعى عام يحول دون عودتها؛ وبين نقاشات اليوم فى مصر عن الاستبداد والشمولية والسلطوية الجديدة التى تسيطر عليها ادعاءات بائسة. نقاشاتنا تسيطر عليها ادعاءاتنا المتهافتة كأكاديميين بامتلاك الحقيقة المطلقة، وتعانى بشدة من تورط كثيرين فى تسفيه أصحاب الرؤى والأطروحات المغايرة إن بشخصنة الاختلاف أو بتوظيف مفاهيم رنانة نزع عنها المضمون (كالواقعية والمنهجية العلمية وحيادية الأكاديمى والمثقف هنا والنقاء الثورى والالتزام الديمقراطى ورفض الاشتباك مع الحكومات غير الديمقراطية هناك) للتشكيك فى الرؤى والأطروحات المغايرة، وتتواتر بها أصوات وكتابات من ينزعون الشرعية الأخلاقية والعلمية عن المختلفين معهم باستخدام مقولات «الخطايا والأخطاء الكبرى» (وتلك فى نقاشات الأكاديميين والمثقفين شأنها شأن التخوين بين السياسيين والتكفير بين أرباب الأصوليات الدينية). ولأن هذه هى طبائع نقاشاتنا عن طبائع الاستبداد والشمولية والسلطوية الجديدة، لم نحقق بعد مرور أربعة سنوات على تعطيل التحول الديمقراطى فى صيف ٢٠١٣ تراكما يذكر فى فهم ما يدور حولنا فى مصر والبحث الجاد عن سبل إصلاحه أو تغييره.