المعونة الأمريكية والضمير الشعبى - مدحت نافع - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:02 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المعونة الأمريكية والضمير الشعبى

نشر فى : الإثنين 28 أغسطس 2017 - 8:55 م | آخر تحديث : الإثنين 28 أغسطس 2017 - 8:55 م
المعونة الاقتصادية الأمريكية لمصر هى مساعدة من الشعب الأمريكى موجهة إلى الشعب المصرى بغرض تحقيق التنمية ومكافحة الفقر. تأتى تلك المعونات فى إطار مساعدة الشعوب التى تمر بصعوبات اقتصادية على تخطى هذه الصعوبات تحقيقا لغاية دستورية أمريكية عليا وردت بديباجة الدستور الأمريكى، مضمونها أن وثيقة الدستور قد صيغت بغرض تشجيع «الرخاء العالمى» بين أغراض أخرى. وحتى نفهم العقلية الأمريكية فى التعامل مع المعونات قطعا أو وصلا أو تخفيضا علينا أن نبتعد عن التفسير التآمرى المعتاد أو فى القليل عدم المبالغة فى استخدامه كمفسر وحيد لسلوك الكونجرس عند إقرار تخفيض فى حجم المعونات المقدمة لبلد ما. ضرورى أن ندرك قيمة الحقوق والحريات فى الضمير الشعبى الأمريكى، وعدم التسامح بخصوصها مهما كانت التكاليف. الشعب الأمريكى دفع ثمنا باهظا للدفاع عن الحقوق والحريات، وخاض حربا أهلية وصراعات مجتمعية عبر سنوات طوال من أجل إرساء نظام مقبول مجتمعيا يحقق توازنا بين حقوق الأفراد والجماعات والولايات والحكومة الفيدرالية. لذا فمن يقرأ تفاصيل برنامج المعونة الاقتصادية لمصر يجده موجها فى جانب كبير منه لدعم الحقوق والحريات، وتحقيق التنمية البشرية بمفهومها الواسع.
أرصد هذا وليس فى نيتى كتابة مقال تقليدى عن المعونة الأمريكية وملابساتها وعلاقتها بعملية السلام فى الشرق الأوسط... إلى غير ذلك من تفاصيل بعيدة عن مجال تخصصى. ولكننى أحاول أن أقرأ بعين فاحصة السياق العام الذى تم به خفض المعونة الاقتصادية لمصر بقيمة 100 مليون دولار وتأجيل صرف معونات عسكرية بنحو 195 مليون دولار بانتظار تحسن سجل القاهرة على صعيد حقوق الإنسان والديمقراطية، وما يحمله ذلك من دلالات سلبية عن طبيعة العلاقات بين البلدين، وعن سير العملية الإصلاحية فى مصر بشقيها الاقتصادى والسياسى، خاصة وقد صاحب هذا القرار تصريحات عنيفة من مسئولين فى الإدارة الأمريكية منها على سبيل المثال ما صرح به أحدهم لشبكة سى إن إن: «لدينا قلق جاد حيال قضية حقوق الإنسان وحسن الإدارة فى مصر، وفى الوقت نفسه فإن تعزيز التعاون الأمنى مسألة مهمة للأمن القومى الأمريكى»، مضيفا «أن واشنطن أعطت خلال العقود الثلاثة الماضية قرابة 80 مليار دولار لمصر على شكل مساعدات لمواجهة التطرف والإرهاب وتعزيز الاقتصاد». البعض يعزى القرار إلى محاولات الضغط على مصر فى سياق متصل بالملف القطرى، والحقيقة أن القرار لم يكن مفاجئا وسبقته مقدمات وأجراس إنذار عدة؛ بدأت بمناقشات حامية فى الكونجرس الأمريكى إبريل الماضى حول تخفيض المعونة لمصر على خلفية تجاوزات بشأن حقوق الإنسان، وأعقبها وثائق نشرتها فورين بوليسى عن اقتراب صدور هذا القرار.. الأمر ليس مفاجئا ولا يخضع لمؤامرة سياسية بقدر ما يخضع إلى ثوابت لدى مؤسسات اتخاذ القرار بالولايات المتحدة الأمريكية لا تقبل المساومة تحت أى ضغوط ولو كانت ضغوط أمنية تمس أمن المواطن الأمريكى ذاته.
***
بعيدا عن الملابسات الدقيقة والتحليل السياسى العميق لقرار تخفيض المعونة وإرجاء جانب منها، والذى يتفوق فيه أساتذة العلوم السياسية، أريد أن أشارك القارئ الكريم بعض التفاصيل التى عاشها الشعب الأمريكى لدى صياغة دستوره، وأبرز الحقوق التى حرص ممثلو الولايات على توافرها قبل إقامة الدولة بنظامها الفيدرالى الراهن.
لم يجتمع ممثلو الولايات فى فيلاديلفيا بولاية بنسلفانيا حتى عام 1787 للبدء فى وضع دستور الولايات المتحدة. وكان ما اتفقوا عليه وصاغوه بمثابة «وثيقة تراض» خاصة بالتمثيل الديمقراطى، وما لبثت تلك الوثيقة حتى صمدت وتكيفت مع المتغيرات لأكثر من مائتى عام. فى ديباجة تلك الوثيقة ما مفاده أنها كتبت لتشكيل اتحاد يكون أكثر كمالا، وإرساء العدالة ولتأمين استقرار محلى، وتوفير دفاع عام، وتشجيع الرخاء العالمى، وتأمين نعم الحرية للشعب فى الحاضر والمستقبل. ومع ذلك عارض نفر كثير من ممثلى الولايات تلك الوثيقة بادئ الرأى، وكانت موافقتهم عليها بعد جدال مشروط بإدخال سلسلة من التعديلات تضمن الحريات المدنية، التى سريعا ما تضمنتها سائر دساتير الولايات.
على أثر ذلك ووفاء بالشرط المشار إليه، أضيفت عشرة تعديلات على دستور الولايات المتحدة عام 1791 بغرض حماية حقوق الأفراد والولايات. 
التعديل الأول: لا يصدر الكونجرس أى قانون بشأن إقامة دين ما أو يمنع حرية ممارسته، أو يحد من حرية الكلام أو الصحافة أو من حق الأفراد فى الاجتماع السلمى ومطالبة الحكومة بإنصافهم من حيف.
التعديل الثانى: حيث إن وجود ميليشيا جيدة التنظيم ضرورى لأمن دولة حرة، لا يجوز التعرض لحق الناس فى اقتناء أسلحة وحملها.
التعديل الثالث: لا يجوز لأى جندى فى وقت السلم أن يقيم فى أى منزل دون رضى المالك ولا فى وقت الحرب إلا بكيفية يحددها القانون.
***
التعديل الرابع: لا يجوز المساس بحق الناس فى أن يكونوا آمنين فى أشخاصهم ومنازلهم ومستنداتهم ومقتنياتهم من أى تفتيش أو احتجاز غير مبرر.
التعديل الخامس: لا يجوز اعتقال أى شخص لاستجوابه بشأن جناية أو جريمة شائنة أخرى إلا وفقا لقرار اتهام صادر عن هيئة محلفين كبرى.. ولا تجوز محاكمة أى شخص بنفس الجرم مرتين فتتعرض حياته أو أعضاء جسده للخطر، كما لا يجوز إكراه أى شخص فى أية دعوى جنائية على أن يكون شاهدا ضد نفسه ولا أن يحرم من الحياة أو الحرية أو الممتلكات دون اتباع الإجراءات القانونية المرعية كما لا يجوز نزع ملكية خاصة لاستخدامها فى سبيل المنفعة العامة من دون تعويض عادل.
التعديل السادس: فى جميع المحاكمات الجنائية للمتهم الحق بأن يحاكم محاكمة سريعة وعلنية من قبل هيئة محلفين غير منحازة يتم اختيارها من الولاية أو الدائرة التى وقعت فيها الجريمة، وتكون تلك الدائرة قد سبق للقانون تحديدها، وله الحق فى أن يبلغ سبب الاتهام وطبيعته، وأن يواجه الشهود الذين يشهدون ضده، وفى أن تتوفر له التسهيلات القانونية الإرغامية لاستدعاء شهود لمصلحته وفى أن يستعين بمحام للدفاع عنه.
التعديل السابع: فى الدعاوى المدنية حيث تزيد القيمة المتنازع عليها عن عشرين دولارا تجب صيانة حق المحاكمة عن طريق هيئة محلفين.
التعديل الثامن: لا يجوز طلب دفع كفالات باهظة ولا فرض غرامات باهظة ولا إنزال عقوبات قاسية وغير مألوفة.
التعديل التاسع: إن ذكر الدستور لحقوق معينة يجب ألا يفسر على أنه إنكار أو انتقاص من حقوق أخرى يتمتع بها الشعب. 
التعديل العاشر: إن السلطات التى لا يوليها الدستور للولايات المتحدة ككل ولا يحجبها عن الولايات فرادى، تحفظ لكل من هذه الولايات أو للشعب.
***
انتهت التعديلات العشرة التى لولاها ما قامت الولايات المتحدة التى نعرفها اليوم، ولما صمدت أمام مختلف التحديات. الشعب الذى حرص على حرية الاعتقاد وعدم تبنى ديانة رسمية موحدة، أصبحت لديه عقيدة عليا لحماية الحقوق والحريات هى التى تميز المجتمع الأمريكى، وهى التى تحرك مفاصله السياسية والاقتصادية، مع الإقرار طبعا باستخدام كثير من الساسة الأمريكيين لتلك الحقوق كساتر لشن حروب وتحقيق مصالح اقتصادية وأغراض الهيمنة.. لكن هذا لا يغير من حقيقة الأمر شيئا، والحقيقة أن الشعب الأمريكى بكتلته الحرجة لا يمكنه شراء أى مشروع سياسى أو اقتصادى أو أمنى يفرط فى الحقوق الحريات مهما كانت مكاسب هذا المشروع.
المطلوب إذن عدم الانسياق خلف دعاوى التهييج ضد الولايات المتحدة، ووقف استدعاء خطاب الكراهية والتربص بمصر من ملفات السادة المحللين الاستراتيجيين الذين كانوا بالأمس القريب يسبحون بفضل الإدارة الأمريكية الجديدة! المطلوب هو عدم تحدى الشعب الأمريكى وتمييزه عن إداراته بمصالحها وأهدافهما الضيقة، وإدراك حدود ومساحة تحرك الرئيس الأمريكى تحت قيود شعبه الذى أتى به عبر الصناديق، والذى يمكنه أن يلقى به خارج البيت الأبيض فى أيام. هذه فرصة إذن لفهم مراكز القوى الفعلية فى الداخل الأمريكى، وعدم الرهان على قوة الرئيس فى النظام الرئاسى وشخص الرئيس فى الإدارة الأمريكية قبل فهم القيود الشعبية والمؤسسية على قراراته، والإطار العام الذى لا يحيد عنه أبدا أى رئيس للولايات المتحدة مهما كانت طباعه وتفضيلاته الشخصية!
تعزيز أوضاع الحقوق والحريات وتسويق الإنجازات فى ملفها على النحو المقبول بين مختلف دول العالم وخاصة الدول الكبرى، هو ركن مهم من أركان تنافسية الاقتصاد المصرى، وشرط من شروط قابلية السوق المصرية للتمدد والاستدامة، وإقامة مراكز مالية إقليمية ودولية يمكنها التكيف مع متطلبات واحتياجات المستثمر المقيم والسائح المنفق.

 

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات