التعليم لأى دولة ولأى مجتمع هو عملية مصيرية يتوقف عليها بناء الأجيال القادمة، وبقدر خطورتها وأهميتها فهى تتسم بالتعقيد الشديد، ورغم أن ذلك يسرى على جميع دول العالم، إلا أن موضوع التعليم فى مصر بات قضية مزمنة وممتدة، يمتد تأثيرها إلى كل بيت وأسرة فى مصر.
إن أول الأخطاء الجسيمة فيما يتعلق بقضية التعليم هو التصور العام السائد على الدوام فى مصر بارتباط تلك القضية نجاحا أو إخفاقا بشخص معين، مهما بلغت قدرات ومؤهلات ذلك الشخص، مع كامل الاحترام والتقدير لكل من يشغل ذلك المنصب ويحمل على عاتقه تلك المسئولية الجسيمة.
وما نشير إليه يأتى من حقيقة أن النجاح فى التعليم وفى أى مجال، إنما يرتبط بوجود استراتيجية واضحة المعالم ومعروفة ومفهومة ومتفق عليها من كل أطرافها؛ الوزارة والمحافظات والمديريات والمدارس والأساتذة والطلاب والطالبات، وهذه الاستراتيجية يتعين لها أن تتغير وتتطور وتعدل وتستمر على خطها الأساسى طويل المدى نحو تحقيق أهدافها، بصرف النظر عمن فى سدة الوزارة أو ديوانها أو من يقوم على مسئولياتها وإدارتها.
إن محور كل شىء فى قضية التعليم والهدف الأسمى للتعليم جوهره وهو الإنسان وتكوينه وإعداده وتهيئته بالعلم والمعرفة لمتطلبات الحياة والعمل، ومن هنا يطرح السؤال المحورى لقضية التعليم نفسه، أين نحن الآن؟ وأين نريد أن نكون؟ وكيف نحقق ما نريده أن يكون؟ والإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة ليست بالأمر السهل، فى بلد يصل تعداد طلابه وطالباته فى المراحل ما قبل الجامعية إلى 25 مليونا، وهو عدد يتجاوز تعداد سكان عدة دول مجتمعة، الأمر الذى يبين القدر الهائل من الجهد الإدارى والتنظيمى والموارد المالية اللازمة كمدخلات أساسية لعملية تعليمية يتطلب أن تكون فائقة الجودة والتميز.
ومع كل الدراسات والتقارير الحكومية والدولية الصادرة فى كل عام عن العملية التعليمية فى مصر من مختلف الجوانب العلمية والمنهجية والتربوية، إلا أن إجراء حوار مع رب أسرة مصرية متوسطة، أو أحد الطلاب النابهين، سيكون كفيلا بكشف حقائق عديدة قد لا تذكرها الدراسات والتقارير، حقائق قد تبدو للبعض بسيطة لكنها حقيقية وواقعية، ولا يختلف اثنان بشأنها، وسيُجمع عليها كل أو معظم من سيسأل عنها.
• • •
الحقيقة الأولى هى تراجع الدور الفعلى للمدرسة فى العملية التعليمية، واعتماد الغالبية العظمى من الطلاب فى جميع المراحل على المدرسين الخصوصيين والمراكز التعليمية الخاصة، وتحول مدارس عديدة فى واقع الأمر إلى مجرد مكان رسمى لتسجيل الطالب وإجراءاته وأداء اختباراته، فى حين تجرى العملية التعليمية الحقيقية فى المنازل والمراكز التعليمية الخاصة، وهى المسألة التى تقتضى من كل رب أسرة التدبير المسبق لموازنة مالية كافية لتغطية نفقات المواصلات والدرس الخصوصى المجمع أو فى المركز، فى ظل ظروف اقتصادية بالغة الصعوبة.
وليس الأمر فى هذا الشأن يقتصر على الأعباء المالية التى تثقل عاتق رب الأسرة، بل يتعلق الأمر أيضا بالطالب الذى يعود من المدرسة إلى البيت بعد يوم (دراسي) طويل، ليعاود النزول ثانية فى النصف الثانى من اليوم متجها إلى مكان الدرس الخصوصى أو مقر المركز التعليمى، وعند المساء تكون طاقة الطالب قد تلاشت ليعود إلى بيته مجهدا منهكا للنوم والاستيقاظ ليبدأ تلك الدورة الاستنزافية من جديد فى اليوم التالى.
وفى ذات الوقت الذى يلجأ فيه الطلاب والطالبات لتلك المصادر، يتقاعس العديد من المدرسين فى معظم المدارس عن أداء واجبهم على الوجه الأكمل نحو الطلاب داخل قاعة الدراسة الرسمية، استنادا على اعتماد هؤلاء الطلاب على الدروس الخصوصية، ومن جهة أخرى فإن العديد من المدرسين سرا وعلانية يتحدثون بأن رواتبهم الهزيلة من المدارس والتى لا توفر لهم معيشة كريمة، هى سبب رئيسى فى تقديمهم الحد الأدنى من خدمة التعليم للطلاب، حيث يقوم هؤلاء المدرسون بتوفير جهدهم للدروس الخصوصية بعد انتهاء اليوم الدراسى، والتى ستوفر لهم دخلا خاصا مجزيا.
هل هذا هو اليوم الدراسى المثالى الذى نحلم به لأولادنا؟ إنه واقع أليم وحقيقة لا سبيل إلا إنكارها، وهى بالإضافة لذلك تتضمن دلالة هامة أولها أن الحق الذى يتضمنه الدستور المصرى عن مجانية التعليم قد بات فعليا وواقعيا غير موجود، صحيح أن الدولة فى مدارسها وجامعاتها الحكومية تقدم خدمة التعليم مجانا وبرسوم إدارية زهيدة، إلا أن واقع الأمر أن كاهل الأسرة المصرية مثقل بأعباء مالية باهظة للحصول على الخدمات التعليمية من مصادر أخرى حتى يتمكن أبناؤها من النجاح.
وفى ذات الوقت الذى تكتب فيه كلمة مجانية التعليم بأكبر أنواع الخطوط فى كل مكان، تقوم منظومة ضخمة من اقتصاد الظل الموازى فى قطاع التعليم بتعداد طلابه وطالباته البالغ 25 مليون فرد، قوامها المدرسون الخصوصيون والمراكز التعليمية الخاصة والكتب والمراجع الخارجية، وهى منظومة مالية هائلة لها قواها ونفوذها وتأثيرها الخطير على هيكل منظومة التعليم فى مصر، وحتى على مدى نجاح استراتيجيات وخطط تطوير التعليم وتحديثه.
ولنسأل أنفسنا بصدق وشجاعة هل يوجد ذلك فى دول أوروبية متقدمة تعليميا مثل فنلندا أو السويد أو بريطانيا؟ هل يوجد ذلك فى الصين أو اليابان أو كوريا الجنوبية؟ الإجابة هى لا، وبذلك فإن المربع الذهبى للمنظومة التعليمية فى مصر القائم على المدرسة والأستاذ والطالب والمادة العلمية هو فى حقيقة الأمر مربع مفكك الأضلاع، ويفتقر إلى ترابط مكوناته وتناسقها، والأمر بذلك خطير ولا ينبئ بخير حاضرا ولا مستقبلا، واستمرار منظومة التعليم على هذا الوضع إنما يحمل مخاطر جسيمة على حاضر هذا الوطن ومستقبله.
• • •
ما أشرنا إليه فيما سبق هو غيض من فيض عن التعليم، وما ذكرنا إن هو إلا بند واحد من ألف بند يتعلق بتلك القضية الهائلة المزمنة، ولم نأت بالذكر على البنود الأخرى ذات الأهمية البالغة مثل المحتوى العلمى للمناهج، ومواد اللغات الأجنبية ومحتواها، وتنمية المهارات الاستيعابية والتحليلية للطالب والطالبة، والقدرة على الإبداع والابتكار، والتعليم والتنمية الذاتية للقدرات، وجودة العملية التعليمية، وتنمية قدرات الأساتذة، وتطوير المدارس والمنشآت والمعامل والوسائل، ووسائل وأساليب قياس قدرات الطلاب والطالبات، ومنظومة الاختبارات بكل عناصرها، وغيرها.
إن المؤشرات الحقيقية كثيرة ومتنوعة على أن منظومة التعليم الحالية فى مصر ليست على ذلك القدر الكافى من الجودة ومستوى الأداء لتخريج أجيال تستطيع التصدى للمستقبل وتحدياته، ولعل الأجيال العظيمة فى الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين كانت هى القدوة والمثل بفعل منظومتها التعليمية ونجاحها فى إعداد دفعات عظيمة من الطلاب ضمت مفكرين وكتابا وعلماء وأساتذة بنوا صرح مصر فى تلك الفترة والفترات اللاحقة وإلى اليوم مازالوا ومازالت آثارهم وأعمالهم قائمة يهتدى بها.
وفى الفترات اللاحقة منذ عقد السبعينيات وإلى اليوم فى تقديرنا، مازالت المنظومة التعليمية المصرية تسعى حثيثا لكن بمستوى دون المأمول، ومنذ السبعينيات اختزلت منظومة التعليم فى مصر إلى مسألة واحدة فقط باتت هى الشغل الشاغل لكل طالب وطالبة وكل أسرة، وهى شهادة الثانوية العامة، والالتحاق بالجامعة، فباتت هى الغاية والوسيلة، وبات المجتمع كله فى كل عام يترقب الاختبارات والنتائج والمؤشرات، وتتكرر ذات المشاهد البغيضة المملة، وهى فى حقيقتها احتفالية سنوية سخيفة لا توجد سوى فى مصر، وفى ظلها القاتم توارت وتلاشت واختزلت اعتبارات ومفاهيم وأهداف كثيرة شديدة الأهمية عن التعليم وجوهره وأهدافه الاستراتيجية لمستقبل مصر.
إن المنتظر من منظومة التعليم فى مصر فى قادم الأيام كثير وكثير، بما يليق بكيان ومكانة وحاضر ومستقبل مصر، ولا سيما أن التحديات جسيمة وعظيمة، فى عالم لا يعرف سوى لغة القوة والتميز والتفوق، والقوة الصناعية والاقتصادية والعسكرية باتت فى جوهرها قـوة تكنولوجية، جوهرها العلم والتقدم العلمى، والأمل هو فى فلذات أكباد هذا الوطن وأبنائه وبناته، فى كل طفل وطفلة فى كل مدرسة، فى كل متفوق ومتفوقة فى كل مرحلة، هؤلاء هم الأمل وبهم سيكون هذا الوطن عظيما شامخا.
خبير اقتصادى ومستشار النقل والتجارة الدولية واللوجيستيات