أين أمشى؟ - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:08 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أين أمشى؟

نشر فى : الجمعة 28 أكتوبر 2016 - 9:25 م | آخر تحديث : الجمعة 28 أكتوبر 2016 - 9:25 م
تحت هذا العنوان وقبل أسبوعين تقريبًا جاءت مقالة الصديق جميل مطر عن المشى. للمشى متعة خاصة لا ينكرها أحد وفوائد جمّة للعقل والجسم معًا وربما كان حافزًا على التفكير والإبداع. لا يلجأ صديقى العزيز إلى المشى كثيرًا وأنا على عكسه مِن المشائين. ليس عندى مانع مِن قطع كيلومترات طويلة سيرًا على الأقدام. لكن أين وكيف أمشى؟

لا أشكّ أن الناس كانوا يتحركون فى زمن ولّى أضعاف ما نفعل اليوم، يستخدمون أقدامهم بانتظام وجدية، يمشون قاصدين هدفًا بعينه وأحيانًا بلا هدف. بعضهم يقطع مسافاتٍ واسعة مِن بيته إلى المدرسة والجامعة والسوق وأحيانًا إلى الشركة أو المؤسسة وبالعكس، وكثيرهم يتريض على النيل فى المُدن التى يمرّ بها، أو يسير بطول البحر فى المُدن الساحلية التى ملكت كورنيشًا وشاطئًا ذات يوم، وبعضهم يتجول بامتداد المساحات الخضراء فى مُختلَف المحافظات والأحياء.

***

على حدِّ علمى، وفى نطاق جولاتى التى باتت قصيرة سريعة قدر المستطاع، لم يعد هناك مكانٌ صالحٌ للسير فى العاصمة فقد استحالت القاهرة فى العقود الأخيرة خرابًا؛ أرصفةً منقرضة، وشوارعَ مفترسة، وهواءً مسمومًا. أما كورنيش الاسكندرية فقد استحال بدوره ممرًا رفيعًا يضيق بالسائرين عليه، وانقلبت رائحة اليود التى طالما ملأت فضاءه وعبَّقت الأنوف إلى عوادمٍ خانقة واحتراقات.

يقتصر المشى الآن على مَن يشتركون فى النوادى، فهناك يُتاح أمامهم براحٌ مَحسوبٌ لمدّ الخطو، وجوٌّ شبه مُحايد للتنفُّس. يتحرك أشخاصٌ كثيرون فى مربعات أو دوائر مكتملة؛ يدورون حول ملاعب الكروكيه أو كرة القدم وما مثلها بدأب وإصرار. لفة وراء لفة، كلٌّ ملتزمٌ بالحارة المرسومة له على الأرض، كلٌّ لا يخرج عن الخطّ. يقطعون المسافة التى يشار إليها بـ«التراك« عديد المرات، ويفقدون سنتيمترات مُكعبة مِن العرق.

***

لى على هذا الشكل مِن رياضة المشى تحفُّظات، وصلت إلى حدود الرفض والمقاطعة.

المتحركون فى الدوائر المغلقة يفقدون كيلوجرامات من الوزن كما يفقدون متعة تحرير العقل من المشاهد المتكررة. ربما تنشط الدورة الدموية وتتحرك العضلات لكن العقل الذى يتلقى صورا ثابتة لا يتحرر من الهموم. أشعر وأنا أدور مع الدائرين أننى كما الثور المربوط إلى الساقية لا ينقصه إلا تغمية العينين، لا تأتنى أفكارٌ ملهمة ولا وحيٌ إبداعيٌ، لا يفاجئنى اكتشافٌ ولا يغرينى تجريب، إنما يطغى على نفسى مللٌ وتدهمنى رغبةٌ ملحّة فى إنهاء المسيرة. أدور مرة واثنتين ثم أجدنى حفظت معالم الأرض وأماكن الحفر والنتوءات وصرت أعدها أو أتجنبها حتى أُسجَن داخلها وما بينها.
اختبرت ذاك الإحساس عشرات بل ومئات المرات وخلتنى فقدت روح التحدى والميل إلى بذل الجهد البدنيّ وفضلت عليهما الكمون.

***

لا أتمكن من التفكير فى «التراك» ولا أظنه أمر صحيّ على عكس السائد وربما على عكس بعض الدراسات والأبحاث. السير فى الحارة نفسها والمرور بالمشاهد نفسها واجترار المعالم نفسها، على فترات متقاربة لا تكاد تتخطى حاجز الدقائق القليلة، لأمر مُرهِق مُضجِر لا يبعث على التأمل فى الحياة ولا على التطرق إلى جديد، بل على التقوقُع فى قالب غير مرئيّ ومِن ثمّ الانغلاق. لا أظن الماشى فى دوائر يخرج بحلٍّ لمشكلة عويصة أو بنظرية جديدة فى العلوم الطبيعية أو الفلسفة مثلا، بل يغوص فى أزماته أكثر وأكثر.

أشعر كلما سرت مع السائرين حول ملعب كرة القدم أننى كما الفأر فى المصيدة، أسير وأسير وأبذل الجهد ثم أصل إلى نفس النقطة، وتلك هى حالنا بوجه عام، لا فيما يتعلق برياضة المشى فقط بل باتخاذ خطوات إلى الأمام على المستويات جميع. نسير بهدف التقدُّم فنجد أنفسنا وقد عدنا أدراجنا، نسرع الخطوات قاصدين إحراز نجاح، فلا يكون سوى العودة إلى نقطة الصفر وربما إلى ما قبلها.

***

بينى وبين المشى فى شوارع القاهرة خصام، أما فى أماكن أخرى بعيدة، خارج الحدود الجغرافية للوطن، فأستعيد ولعى به. أقطع فى اليوم الواحد حين أزور بلدًا أوروبيًا أو مقاطعة كندية ما لا يقل عن عشرة كيلومترات، أتوغل فى أماكن لا أعرفها وأزور أخرى مُسترشِدة بخريطة وأستعذب توهانى فى الطريق، لا ألجأ إلى مواصلة عامة ولا خاصة، لا أستخدم سوى قدميّ مُتمَتِّعة بحيوية غير معهودة.

المشى صحة، لكن الصحة فى المتغير، فى المتجدد والنقيّ، لا فى الراكد؛ الملوث بألوان مِن العلل وأطنان مِن الرماد. المشى صحة وبيئتنا طاردة لكل ما هو صحيّ وصحيح. ينصحنا أغلب الأصدقاء بالمشى ما استطعنا، ونصيحتى لنفسى بالهرب. بالاستجابة إلى نداء الفرار مِن المدينة الشرسة كلما استطعت.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات