حفظنا صغارًا تلك الجملةَ وكرَّرناها مِرارًا على ألحانٍ مُبهِجة: العيد فرحة وأجمل فرحة. هي أغنيةٌ اشتهرت وانتشرت فور أن قدَّمتها الفنانةُ صفاء أبو السعود التي يلقى حضورُها قبولًا واسعًا لدى كثير المُشاهدين. تحوَّلت الكلماتُ من حينها إلى علامةٍ ثابتة، إذا اقترب العيد أذاعتها غالبُ القنواتِ كأنها مِن لوازمِه، وإذا لم نسمعها تساءلنا أين ذهبت وتشكَّكنا في التقويم. على الجانبِ النقيض أنشد الشاعر بائسًا: بأي حالٍ عُدت يا عيدُ؟ والحقُّ أن سؤالَه صار لسانَ حال عديدِ الناسِ إذا تحوَّلت المُناسبةُ بمُقتضياتِها إلى عبءٍ ماديّ يستنزفُ القُدراتِ ويُرهقُ النُّفوس.
• • •
الفَرحَةُ اسمُ المرةِ الواحدةِ من الفعل فَرَحَ أي؛ سُرَّ وطابت نفسُه، والفرحُ هو المَصدر، أما الفرحان ففاعل، ولا يغادر الذاكرةَ فيلم "فرحان ُملازم آدم" للفنان فتحي عبد الوهاب، وهو في ظنّي واحد من الأعمال الدرامية التي تركت بصمةً واضحةً؛ وإن لم تحظ بالحفاوةِ الجماهيرية المناسبة.
• • •
إذا وُصِفَت الفرحةُ بأنها من القَّلب فهي صادقةٌ تلقائية، لا تتدخَّل فيها حساباتُ العقلِ فتثقلها، ولا تعرقلها تحفظاتٌ وشروط. فَرحةُ القلبِ سابقةٌ على التفكير، تترجمها انفعالاتٌ فوريةٌ غير خاضعةٍ للتشذيبِ والترشيد.
• • •
تكني فَرحَةُ العُمر في العادةِ ارتباطًا وزواجًا، والنّيةُ التي يجسدها التَّعبيرِ تُدلّل على مَرةٍ واحدةٍ في حياةٍ الشَّخص، لا اثنتان أو ثلاث؛ لكن النوايا لا تصدُق دومًا، والفَرحَةُ التي يُؤمَل أن تتوالدَ وتزدهرَ وتتحوَّلَ إلى مَقامٍ دائم، قد تنتهي خلال فترةٍ قصيرةٍ وتغدو مَبعثَ نكدٍ وشقاء.
• • •
الفَرحةُ الغامرةُ تكسح أمامَها المَواجع، تُنسي المرءُ ما نغَّصَ عيشتَه وتهبُه لحظاتٍ من النشوةِ الخالصةِ، مَنزوعةِ القيود، قد يعود بعدها إلى واقعه مُرغمًا؛ لكنه لا يتخلَّص من كاملِ أثرها.
• • •
إذا قيل فرحةٌ مَنقوصَة؛ فالقصد أن ثمَّة ما عكَّر صفوَها وكدَّرها واقتطع مِن تمامها. غيابُ عزيزٍ عنها أو وقوع ما أفسدها، فإذا تحقَّقت على غير المأمول؛ تمنى المرءُ لو تأخَّرت أو تأجَّلت إلى وقتٍ مُلائم؛ يتيح له مُتعةً صافيةً، لا يلونها ضيقٌ ولا يعتريها شجن.
• • •
سَمعت مِن عجائزِ العائلةِ المُمتدَّة تلك القولةَ عبر مَواقف مُتشابهة: "في فَرحكم مَنسية وفي همُّكم مَدعيَّة"، والغرضُ بلا شكّ لومُ المُتلقي وتأنيبه، والقائلُ ولا جدال مُستنكرٌ مُستاء؛ فالطبع البشريّ ميَّالٌ إلى المُشاركةِ في ما يُبهِج النَّفسَ لا فيما يَجلبُ الغمَّ، لكن الأمورَ تأتي عادةً على عكسِ المُشتَهى، فمتى حلَّت نازلةٌ؛ كانت الاستغاثةُ بمن يُرجى منهم العونَ، ومتى جاءت المناسباتُ السعيدة؛ لم يكونوا بين المتواردين على الفِكر. هُمُ أهلُ الشَّدائدِ وغيرهم أهلُ طَربٍ ومَسرَّة.
• • •
إن كان المَرءُ على وَشك الاحتفالِ بأمرٍ طالَ انتظارُه، ثم إذا به يفقده ويفقد معه أحاسيسَ الترقُّب والحماسِ استعدادًا لنوالِ المُراد، قال: "يا فرحة ما تمَّت أخذها الغرابُ وطار"، والمعنى أن مصدرَ السعادةِ كان على مَرمى البَصر، فما إن اقترب الرائي منه حتى ابتعد ونأى؛ مثل حلية لامعة سطا عليها ذاك الطائرُ خفيف الظلِّ، المَعروف بكونه لصًا ماهرًا، قادرًا على اقتناص الغنائم.
• • •
غنَّت الرائعةُ ماجدة الرومي: "مع إن مش كلّ البشر فرحانين"؛ فكانت الأغنيةُ أيقونةَ فيلم عودةِ الابن الضَّال، الذي أخرجه يوسف شاهين عام ألف وتسعمائة وستة وسبعين، وقامت ببطولته القديرة سهير المرشدي، كما ظهر فيه الراحل الجميل هشام سليم. الكلماتُ التي تبدأ بقيامٍ حزين؛ تُهدي كذلك بعضَ الأمل لمن سحقتهم الهزيمة واعتصر قلوبهم القهر: لسه الطيور بتطن والنحليات بتزن والطفل ضحكه يرن. الحياةُ بسيطةٌ قويةٌ مُتواصلةٌ رغم الآمها.