غيرت جائحة كورونا من الأوضاع الاقتصادية العالمية وكانت لها تداعيات كثيرة على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
فى دول مجلس التعاون الخليجى، رتبت الجائحة تراجعا حادا فى أسعار النفط التى انخفضت إلى مستويات صفرية فى ٢٠٢٠ ولم تتجاوز ٥٠ دولارا لبرميل النفط طوال ٢٠٢١ إلى أن بلغت ٧٧ دولارا للبرميل فى نهايته. وعنى ذلك، من جهة أولى، عجزا ماليا لم تشهده موازنات الخليج منذ زمن طويل. على سبيل المثال، تضاعف عجز الموازنة الكويتية من ٢٦ مليار دولار فى السنة المالية ٢٠١٨ ــ ٢٠١٩ إلى ٥٠ مليار دولار فى السنة المالية ٢٠٢٠ ــ ٢٠٢١. عنى ذلك، من جهة ثانية، انصراف مؤقت لحكومات الخليج عن تنفيذ خططها الطموحة لإضافة المزيد من التنوع لاقتصاداتها عبر التوسع فى النشاط الصناعى والتكنولوجى والزراعى والخدمى (خاصة قطاع السياحة وقطاع الخدمات المصرفية) واستمرار اعتماد الخليج الأساسى والملىء بالمخاطر على مداخيل الثروة النفطية (البترول والغاز الطبيعى). عنى ذلك، من جهة ثالثة، تراجع المخصصات المالية لاستثمار حكومات الخليج فى «الاقتصاد الأخضر» والمبادرات الهادفة للحد من التداعيات السلبية للتغير المناخى (كانت حكومة الإمارات العربية المتحدة هى الاستثناء الوحيد فى ٢٠٢٠ و٢٠٢١).
واليوم، وبعد أن تسببت الحرب الروسية على أوكرانيا فى ارتفاعات غير مسبوقة فى أسعار النفط التى تتجاوز راهنا ٩٠ دولارا للبرميل، فإن اقتصادات وموازنات دول مجلس التعاون الخليجى فى سبيلها للانتعاش بفعل زيادة عوائد النفط والوفرة المالية المتوقعة خلال السنوات القادمة. لذا، ليس غريبا أن تحاول الحكومة السعودية ومعها حكومات الخليج الأخرى الحفاظ على سعر النفط مرتفعا وأن تمرر من منظمة «أوبك بلس» القرار الأخير بخفض معدلات الإنتاج. لذا أيضا، ليس غريبا أن يتجدد انفتاح الخليج على الاستثمار الحكومى فى خطط التنوع الاقتصادى وفى الاقتصاد الأخضر والمبادرات المناخية.
• • •
أما فى بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا غير المصدرة للنفط، فقد كان الثمن الاقتصادى والمالى والاجتماعى لجائحة كورونا شديد القسوة. وفقا لتقارير البنك الدولى، ساءت مؤشرات الفقر الحاد (أى عدد الناس الذين يعيشون على أقل مما يعادل دولارين فى اليوم) على نحو صارت معه النسبة فى عموم المنطقة ١٠ بالمائة فى ٢٠٢١ بعد أن كانت دون ٣ بالمائة فى ٢٠١١. كذلك قدر البنك الدولى أن الخسارة الاقتصادية المباشرة التى رتبتها الجائحة بين ٢٠٢٠ و٢٠٢١ على بلادنا تتجاوز ٢٢٧ مليار دولار ومرشحة للتصاعد خلال السنوات القادمة مع استمرار تداعيات كورونا.
واليوم، ومع ما نتج عن الحرب الروسية على أوكرانيا من ارتفاعات مستمرة فى الأسعار العالمية للغذاء (خاصة القمح الذى تستورده بكثافة أغلبية بلدان المنطقة) وفى أسعار الطاقة ومعدلات التضخم العالمى الخارجة عن السيطرة، تعانى بلادنا من مخاطر اقتصادية ومالية وآثار مجتمعية خطيرة للغاية. يعنى ذلك، وفيما خص الاستثمارات الحكومية والخاصة فى بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا غير المصدرة للنفط فى قطاعات الاقتصاد الأخضر والمبادرات المناخية، أن انكماش تلك الاستثمارات وتراجع مخصصاتها المالية هما الأمر المتوقع فى ظل المخاطر الكبيرة المحيطة ببلدان مثل مصر، والأردن، وتونس، والمغرب. وتزداد الأوضاع الاقتصادية والمالية والمجتمعية صعوبة فى البلدان التى تتراجع بها القدرات المؤسسية للحكومات، إن بفعل الحروب الأهلية المستمرة كما هو الحال فى سوريا واليمن وليبيا أو بفعل الضعف التاريخى للدولة الوطنية والانسداد المستمر للأفق السياسى والتدخلات الخارجية ذات التأثير السلبى كما هو الحال فى لبنان.
بل إن تراجع القدرات المؤسسية للحكومة والأزمات السياسية المتتالية والتدخلات الخارجية الضارة (من قبل نظام الجمهورية الإسلامية فى إيران) تمثل معا عناصر فشل دولة غنية بمواردها النفطية كالعراق فى الحفاظ على قدرة من المرونة الاقتصادية والمالية للتعامل مع تداعيات كورونا وفى الإفادة من الوفرة الحادثة اليوم بحكم ارتفاع أسعار النفط فى التوسع فى الاستثمار فى قطاعات الاقتصاد الأخضر والمبادرات المناخية (علما بأن العراق يعد من أكثر دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تضررا من التغير المناخى مترجما إلى ارتفاع فى درجات الحرارة والجفاف والتصحر).
• • •
هكذا يبدو مشهد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قبل كوب ٢٧، قبل قمة المناخ السابعة والعشرين التى ستنعقد خلال أيام فى شرم الشيخ. وهكذا يمكن فهم المعادلة الصعبة التى تواجهها بلداننا، بعيدا عن الخليج. هى المعادلة الصعبة المتمثلة فى التناقض بين احتياج بلداننا الحقيقى للتعامل مع تداعيات التغير المناخى على المديين الزمنى المتوسط والطويل ومن ثم الاستثمار فى الاقتصاد الأخضر والمبادرات المناخية وبين الضغوط الشديدة التى تواجهها على المدى القصير بفعل جائحة كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا وأزمات اقتصادية واجتماعية أطول عمرا كالفقر وضعف إنتاجية الاقتصاد وغياب التنوع عن قطاعاته وارتفاعات الأسعار المتواصلة ومحدودية شبكات الضمان الاجتماعى (مصر كاستثناء حقيقى فيما خص شبكات الضمان الاجتماعى خلال السنوات الماضية) وتدفعها للتركيز اليوم وغدا على تحقيق قدر من الاستقرار الاقتصادى وسد العجز المالى والسعى للحد من غياب الأمن الغذائى والإنسانى. هى المعادلة الصعبة المتمثلة فى التناقض بين إدراكنا لضرورة التعامل مع التغير المناخى لكيلا نرتب لبلداننا المزيد من الأزمات الوجودية فى المستقبل ومن ثم حتمية تخصيص موارد وطاقات حكومية وخاصة للأمر وبين ضغوط الحاضر التى تدفعنا لتخصيص كل مواردنا الحكومية والخاصة لإدارة لحظة أزمة تداعيات كورونا وتداعيات حرب روسيا على أوكرانيا والاختلالات الأطول عمرا لمجتمعاتنا ومن ثم ترتب إلغاء استثمارات الاقتصاد الأخضر ومخصصات المبادرات المناخية.
تنجو بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المصدرة للنفط، باستثناء العراق، من هذه المعادلة الصعبة بحكم الزيادات فى وفرتها المالية مع ارتفاع أسعار النفط. وتقع بقية بلداننا فى مصيدتها التى لا نجاة منها سوى بالتوافق فى قمة المناخ بشرم الشيخ على استراتيجيتين رئيسيتين والالتزام بهما. أولا، أن تفى البلدان المتقدمة فى الشمال (أمريكا الشمالية وأوروبا وكذلك اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا) بالتعهدات التى قطعتها على نفسها بتقديم ١٠٠ مليار دولار لبلدان الجنوب للتعامل مع تداعيات التغير المناخى وباعتماد أدوات أخرى غير مالية (مساعدات تكنولوجية وتجارية واقتصادية) لدعم اقتصادات ومجتمعات بلدان الجنوب ومنها بلداننا. ثانيا، أن تنفتح بلدان الوفرة المالية فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أى بلدان مجلس التعاون الخليجى المصدرة للنفط، على تقديم الدعم المالى لمشروعات الاقتصاد الأخضر والمبادرات المناخية الإقليمية ومساعدة البلدان غير المصدرة للنفط على الاستثمار فى التعامل مع التغير المناخى دون أن يعنى ذلك الخصم من المخصصات الحكومية والخاصة اللازمة للحد من معاناة الناس، والمجتمعات الاقتصادية، المالية، والاجتماعية.
هذه لحظة للتضامن العالمى والإقليمى وكلى أمل ألا تذهب هباء فى شرم الشيخ.