حينما تردد أن المفاوضات مع صندوق النقد الدولى قد اشتملت على شروط من قبل الصندوق، تتعلّق بتعدد أسعار الفائدة فى الجهاز المصرفى المصرى، وأن تلك الشروط تنطوى على ضرورة إلغاء المبادرات المصرفية المختلفة، التى كانت الإدارة السابقة للمركزى المصرى تطلقها طوال الوقت. لم أجد أبدا ضرورة لإلغاء جميع المبادرات أو حتى بعضها فى سياق التفاوض مع أى جهة دولية! من حق المفاوض الدولى أن يطالب بعدم تشوّه أسعار العائد على رأس المال فى الجهاز المصرفى، ومن حقه أن يربط بين تعدد أسعار الفائدة وفرص تعميق أزمات المالية العامة وعجز ميزان المعاملات الخارجية.
لكن الحل الذى اقترحته عبر منصات إعلامية عدة، هو نقل جميع المبادرات المتعلقة بتحفيز الصناعة ودعم الإسكان المتوسط وغيرهما إلى صندوق مستقل، ثم فى خطوة تالية يتم مراجعة تلك المبادرات والإبقاء على ما هو فعّال منها، فى الوقت ذاته يقوم البنك المركزى بفرض أسعار فائدة أكثر تناسقا مع ظروف العرض والطلب وضرورات التضخم المستهدف، على أن مستحقى الاستفادة من تلك المبادرات عليهم اللجوء إلى الصندوق لتعويض الفرق بين أسعار الفائدة السائدة فى المصارف، وبين نسبة الدعم أو الحافز الممنوح آنفا من قبل البنوك.
نفس الآلية يقدمها ــ مثلا ــ البنك الأوروبى لإعادة الإعمار والتنمية، فى إطار دعمه المقدّم للصناعات المتوافقة بيئيا، من خلال برنامج المراجعة على الإنتاج المحسّن « Enhanced Production Audit Program EPAP» حيث يقدّم البرنامج من خلال المصارف المتعاونة، مزايا للمشروعات الصناعية المتوافقة بيئيا. يمكن أن تتضمّن المزايا ردا لبعض المبالغ المدفوعة من قبل الشركات الصناعية لشراء وتأهيل خطوط الإنتاج بغرض تخفيض بصمتها الكربونية، كما يمكن أن تتضمّن تقديم قروض بأسعار فائدة مخفّضة عن الأسعار السائدة، على أن يسدد البرنامج من خلال منحته المذكورة الفرق بين الأسعار السائدة، وتلك التى يتم تقديمها فى صورة قرض ميسّر concessional loan.
• • •
اختارت الدولة إذن آلية قريبة من هذا الطرح، حينما قررت الإبقاء على عدد من المبادرات المقدّمة من قبل البنك المركزى مع نقلها إلى الوزارات المختصة بعيدا عن الجهاز المصرفى. منذ أيام، أصدر الدكتور مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء قراره رقم 4151 لسنة 2022 بشأن تنظيم المبادرات المقدّمة بأسعار فائدة تفضيلية، حيث عهد إلى وزارة المالية بإدارة تلك المبادرات وأى مبادرات مقبلة من شأنها التأثير على الموازنة العامة للدولة. وقد اشتمل القرار على نقل العبء المالى والإشراف الفنى والتنظيمى للمبادرات القائمة التالية إلى الجهات المبينة قرين كل مبادرة كما يلى:
1. مبادرة التمويل العقارى لمتوسطى الدخل، وتتحمل وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية تكلفة تعويض البنوك عن فروق أسعار الفائدة.
2. مبادرة دعم قطاع السياحة، ويعهد بها إلى صندوق دعم السياحة والآثار أو وزارة السياحة والآثار للتعويض.
3. مبادرة إحلال المركبات للعمل بالوقود المزدوج، ويعهد بها إلى وزارة المالية للتعويض.
4. مبادرة التمويل العقارى لمحدودى ومتوسطى الدخل، ويعهد بها إلى وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية للتعويض.
5. مبادرة تشجيع طرق الرى الحديثة، ويعهد بها إلى وزارة المالية للتعويض.
لم يذكر القرار أى شىء بخصوص مبادرتى تشجيع الصناعة بتقديم قروض بسعر فائدة 8% أو تلك الخاصة بالصناعات الصغيرة والمتوسطة بسعر فائدة 5%. ونتيجة للسكوت عن تلك المبادرات، فقد انقسم المحللون بين ظان فى استمرار العمل بها وتبعيتها للبنك المركزى، وهو احتمال مستبعد فى ظل التوجّه التنظيمى الجديد لهذا النوع من المبادرات، وبين من يجزم بأن هاتين المبادرتين قد تم إيقاف العمل بهما إلى أجل غير مسمّى!.
سرعان ما صدرت العديد من التبريرات لتجميد مبادرتى الصناعة، كونهما لم يصلا سابقا إلى المستحقين، وأن المشروعات الأكثر استفادة من أسعار الفائدة التفضيلية، ليست هى المستهدفة بالمبادرات بادئ الرأى. لا يمكن أن أتفق مع نتائج هذا الطرح حتى وإن صحّت مقدماته. فساد التطبيق لا يعنى بالضرورة فساد النظرية... التشريعات السماوية والوضعية خير دليل على هذا. الشرائع السماوية لا تدعو إلى التطرّف والإرهاب، لكن بعض معتنقى تلك الشرائع أحالوا حياة البشر إلى جحيم، بزعم الانتصار لتعاليم الدين. كذلك قوانين البشر التى تخضع للتحايل وتتعدد سبل وفنون انتهاكها، ليست بالضرورة قوانين سيئة. مبادرات الصناعة لا تشذ عن تلك القاعدة، فهى مبادرات جيدة، الغرض منها تعميق الصناعة محليا وتوطين الصناعات عبر تقديم رءوس الأموال للمشروع الصناعى بتكلفة منخفضة نسبيا، أما حوكمة إدارة تلك المبادرات فهى أمر آخر.
• • •
الصناعة تلقّت خلال السنوات الماضية ضربات متلاحقة، لا تكاد تفيق منها إلا على ضربات جديدة!. ما إن انتهت أزمة كوفيدــ19 أو أوشكت على الانتهاء، بعدما عانته الصناعة من إغلاقات ووقف لحركة الأموال والأفراد والبضائع عبر الحدود، حتى اندلعت الحرب الروسية ــ الأوكرانية لتتسبب بدورها فى أزمات فى الطاقة، وسلاسل التوريد، وحركة الملاحة فى البحر الأسود، وارتفاع مستويات المخاطر الجيوسياسية إلى حدود غير مسبوقة. كذلك نتج عن الأزمتين موجات تضخمية ضربت العالم المتقدّم، واستدعت ارتفاعات متتالية فى أسعار الفائدة على العملات الرئيسة، الأمر الذى ألقى بظلال كئيبة على تكلفة الديون للدول الناشئة على وجه الخصوص، وعلى تكلفة الاستيراد التى تسرّبت إلى أسواق السلع والخدمات فى هيئة تضخم فى الأسعار، صار يهدد الطلب العام ومستويات التشغيل وينذر بتزاوج التضخم بالركود، خاصة مع انتشار توقعات شبه محسومة بضرب الركود للولايات المتحدة الأمريكية خلال العام المقبل ولمدة عام آخر على أقل تقدير.
تلك الصدمات ترفع من فاتورة المستثمر الصناعى بشكل عام، ويكون أثرها فى مصر مضاعفا حينما تجتمع مع تكلفة مرتفعة للأرض الصناعية، وتعدد جهات الولاية على المشروعات، وما يستتبعها من تعقيد إصدار التراخيص والموافقات، وعدم توافر نظام ضريبى صديق للاستثمار، والتحرير المتسارع فى أسعار الطاقة. فليس أقل من توفير آلية لحماية المصنّعين فى مصر من ارتفاع مفاجئ فى تكلفة رأس المال عن طريق الاقتراض، مما يجعل من بديل التمويل الذاتى أو من خلال المشاركة، البديل الناجع الوحيد لكثير من المشروعات، وهو بديل ليس يسيرا ولا متاحا بوفرة للمشروعات الناشئة والصغيرة والمتوسطة.
الرفع المتتالى فى أسعار الفائدة على الجنيه المصرى، فى محاولة يائسة لملاحقة الدولار الأمريكى الذى رفع الفيدرالى الأمريكى أسعار الفائدة عليه من قرب الصفر عند نهاية الربع الأول من العام الحالى، إلى 4% حاليا، تدفع ثمنه المالية العامة بصورة كبيرة، بسبب ارتفاع تكلفة الاقتراض المحلى ناهينا عن الاقتراض الخارجى المتأزم. لكن المستثمر الخاص يدفع ثمنه أيضا فى صورة ارتفاع تكاليف التمويل، ما لم تتدخل الدولة لتمييز هذا المستثمر بأسعار فائدة تفضيلية من خلال المبادرات التمويلية.
التدخل لدعم المستثمر الصناعى لا يعود بالنفع فقط على الاستثمار الخاص، لكنه يخفض من تكلفة الاستيراد للدولة التى تعانى من ارتفاع أسعار النقد الأجنبى والعجز المتزايد فى ميزان المعاملات الجارية، والذى يعود بضغوط إضافية على سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الصعبة. وذلك لأن الاستثمار فى الصناعات ذات القيمة التصنيعية المضافة يحقق النفع المزدوج المنشود، بإحلال المنتج المحلى محل المنتج المستورد من ناحية، وبتحقيق فائض صناعى للتصدير لزيادة حصيلة النقد الأجنبى من ناحية أخرى، ولا يمكن لأى نشاط آخر غير إنتاجى (سواء للإنتاج الصناعى أو الزراعى) تحقيق تلك المعادلة الصعبة.
استمرار تقديم مبادرات دعم الصناعة الوطنية أمر مهم إذن على المستويين الكلى والجزئى فى الاقتصاد. فمن ناحية تحقق المنشأة قدرا من الصمود أمام الصدمات، ومن القدرة على التعافى السريع بالاستعانة بأموال منخفضة التكلفة إلى حد ما. ومن ناحية أخرى يحقق الاقتصاد الكلى العديد من المكاسب المتمثلة فى معالجة العجز الخارجى، وتخفيض الاعتماد على النقد الأجنبى، ووقف انفلات سعر صرف الدولار، وزيادة التشغيل والحد من البطالة.. مع استفادة أكبر من فائض الطاقة الذى أنتجته البلاد أخيرا، وآن وقت استغلاله بخلق قيمة مضافة عوضا عن إهداره فى صورته الخام.