كان عاما مليئا بالمراجعة والتأمل، مليئا بالعودة إلى مواقف بعينها ومحاولة إعادة كتابتها مع تغيير بسيط لتتحول القصة. كان عاما فيه نهايات مختلفة تغير الأقدار. كان عام الزيارات فى ذاكرتى مع محاولتى أن أتخيل نفسى أعيش فى أماكن قديمة وجديدة. ربما هى نهاية كل سنة، تلك التى تفرض رؤية بأثر رجعى أصلا، فأتخيل مدينة لم تتبعثر وحيا لم يهرم ووجوها لم تخلق الخيوط متاهات حول عيونها.
• • •
فى العودة إلى القاهرة تختلط المشاعر والسنوات والمراحل والعلاقات. القاهرة، كما الحب، فيها بمراحل تسحب منى طاقة بأشكال مختلفة. المدينة قاسية وحنونة، بسيطة وهى فى قمة التعقيد. فى العودة إليها ذلك الشعور المربك لفرط الفرح باللقاء والحزن أمام قلة الحيلة. هو الحضن الواسع والخانق معا، ذلك المكان الذى يطبطب على ويعصر منى آخر رمق فى الوقت ذاته.
• • •
فى السنوات العشرين الأخيرة عشت علاقة متقطعة مع القاهرة، خمس سنوات فيها وخمس خارجها بالتناوب. أظن أن العلاقة، كعلاقة الصيام المتقطع الدارج حاليا كأسلوب للحياة، تراعى عدم تعرض الروح، كما الجسد فى حالة الصيام، إلى ضغط المدينة (أو الطعام) لمدد يصعب استيعابها وهضمها. لذا فمدينة بزخم القاهرة يجب أن تشرب بجرعات متقطعة حتى يدوم الحب!
• • •
فى عام مراجعة العلاقات بالأماكن، رأيت أننى أتعلق بالناس وأظن خطأ أننى تعلقت بالمكان. فى محاولة منى أن أتخيل مراحل قادمة مثل مرحلة التقاعد، لا أرى مكانا بعينه بقدر ما أرانى مع أصدقاء من حياتى فى القاهرة أو بيروت أو دمشق أو غيرها. أشارك فى أحاديث حول ترف اختيار حياة ما بعد العمل، أدلو بدلوى وأتفلسف وأنا أقارن الحى العجوز بأحياء يافعة أو المدينة الممتدة بالمدن الجديدة، بل أزيد من الفلسفة حين أخرج من البلد والمنطقة برمتها وأتخيل نفسى فى مدينة ربما زرتها مرة وذكرتنى بزوايا مدن أحببتها، وها أنا أتخيل نفسى على شرفة عمارة بطوابقها القليلة وأعطى أمثلة للأصدقاء عن أماكن معقولة للعيش فى مرحلة التقاعد.
• • •
الجنة بلا ناس.. وماذا عن الناس دون الجنة، حين يتحول المكان إلى آلة عملاقة تأكل أبناءها وترمى ببقاياهم أشلاء على النواصى؟ المدن التى أحبها تكسر العظام ثم يرممها ناسها، تلقى من السكان من أعلى عمارة ثم يلتقطهم الجيران قبل أن يرتطموا بالرصيف المكسر. الشوارع تزهق الروح ولقاء الأصدقاء يردها، التلوث يخنق الرئة ورائحة الخبز من الفرن البلدى يفتح الجهاز التنفسى كله فى شهيق واحد.
• • •
فى عام مراجعة السنوات، رأيت أن السنوات هى العلاقات بالناس، فتلك كانت مرحلة فلان، وبعدها جاءت مجموعة فلانة، ثم الأعياد مع فلان وبعدها اللقاءات مع دوائر فلانة، وهكذا. أنا ألصق الوجوه على الأرقام، آخذ ورقة كبيرة أكتب عليها العام وأبدأ بلصق الصور، كما كنت أفعل أحيانا فى المدرسة حين يطلب الأستاذ أن أقدم مشروعا عن التصحر فألصق صورا من مناطق مختلفة أقصها من الصحف والمجلات لأعطى مادة بصرية للموضوع. بالطريقة ذاتها، ألصق وجوها مرت على فى الأعوام المختلفة وأرى بعضها يتكرر من سنة إلى سنة.
• • •
خمسة أعوام فى القاهرة وخمسة خارجها، يبدو أن هذا هو إيقاعى مع المدينة. أمشى فى الشارع وأتعرف على السيدة التى تبيع المناديل بنظارتها السميكة وصوتها الرفيع. بائع الورد الطفل صار شابا. المكتبة فى مكانها أما قرينتها على الطرف الثانى من الشارع فقد اختفت. الزحمة قطعا ازدادت والتركيبة السكانية اختلفت كثيرا عن زياراتى السابقة. الفئات العمرية أيضا تغيرت، أو ربما ما تغير هو انتقالى أنا إلى مرحلة جديدة تنافس فيها خطوط وجهى تشقق أرصفة المدينة. عام مراجعة العلاقات بالناس والأماكن يؤكد أن ارتباطى بالأماكن هو ارتباطى بالناس فقط. أعود حيث لى أصدقاء ولا يهمنى زيارة أماكن لا أعرف فيها أحدا.
• • •
الجنة كلها ناس على فكرة، هى ذلك المكان الذى فيه من الأصدقاء ما يملأ أيامى فأكتب على صفحة مواعيد كل يوم وأشطب من اللائحة أسماء من رأيتهم. الجنة مكان أنتقل فيه من قهوة إلى غرفة جلوس ثم أقف مع شخص رأيته بالصدفة حين خرجت لشراء الحليب لا غير. الجنة أجدها على ناصية الشارع حين ألتقى بصديقة تقود الدراجة لم أرها منذ سنوات فنقف ونتفق على وقت للقاء.
• • •
لا أعرف عن الأماكن الخلابة التى ينصهر فيها الشخص مع جمال ما حوله، هى موجودة بحسب ما رأيته فى سنوات تنقلى، لكن اليوم، وأنا أراجع سنواتى المنصرمة، أتأكد أن الجنة هى الناس، هى مكان كله ناس، مع الاعتذار للفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر حين قال إن جهنم هى الآخرون. سوف أدع الفيلسوف لشأنه فأنا لا أعرف ظروفه لكن بالنسبة لى فالجنة كلها ناس!
كاتبة سورية