ـ1ـ
عادة ما يلجأ الروائيون والأدباء إلى التاريخ لاستعارة أقنعته ومجازاته، وقول ما لا يحتمله الواقع المعاصر من أسئلة وأفكار، فى هذه المرة ستحدث العملية العكسية، ويذهب المؤرخ إلى الأدب والرواية لقول ما لا يستطيع الإفصاح عنه فى كتاب أو دراسة. المؤرخ والأكاديمى القدير الدكتور محمد عفيفى الرئيس السابق لقسم التاريخ بجامعة القاهرة والأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة بمصر، وصاحب المؤلفات والدراسات التاريخية المعتبرة، يخوض هذه التجربة فى روايته الصادرة أخيرا عن دار الشروق «يعقوب».
ــ 2 ــ
بداية، لا يمكن قراءة الرواية بمعزل عن الاتجاه الفكرى «الثقافى» فى الغرب، الآن، الذى يعيد النظر فى «فكرة» انفصال التاريخ عن الأدب التى كانت تدعمه سابقا فى الدراسات التاريخية لفترة طويلة. يقول أنصار هذا الاتجاه إن هذا الانفصال الذى حدث فى مرحلةٍ ما من مراحل تطور الدراسة التاريخية، لم يكن فى صالح التاريخ، وأن كلمة «History» بالإنجليزية أو «إستوار» بالفرنسية، كانت تترجم إلى كلمة «تاريخ»، ولكنها أيضا تترجم إلى «حكاية» أو «سرد» أو «قصة».
وبالتالى، كان الانفصال الحاصل بين التاريخ والأدب، بزعم أن التاريخ يروى وقائع «حقيقية»، بينما الأدب يروى وقائع «متخيلة»، مضرا لكليهما؛ إذ اتضح بعد ذلك أن فكرة «الموضوعية»، والحقيقة ذاتها، «نسبية»، وليست مطلقة!
وبالتالى أيضا، فإن انفصال التاريخ عن الأدب أفقده كثيرا من حيوية السرد، وتوظيف أساليبه وتقنياته، كما أفقده كثيرا من الانتشار والمقروئية بين جمهوره أيضا. ومن هنا فقد أعيد النظر فى وضعية «الأكاديميا» و«الأكاديمية»، وكيف أنها فى الحقيقة أضرت كثيرا بالتاريخ أكثر مما أكسبته أو أفادته. وأصبح هناك اتجاه أصيل فى الدرس المعاصر للعودة إلى وصل العلاقة بين الأدب والتاريخ مجددا.
ــ 3 ــ
انطلاقا من هذا الإطار «التصورى» لطبيعة العلاقة بين الأدب والتاريخ، وفى ظلِ إعادة النظر والاعتبار للوشائج الموصولة بينهما، تطرح رواية «يعقوب» لمحمد عفيفى (أو تجسد) إشكالية حيرة المؤرخ أمام «الأكاديميا» التاريخية الجافة وبينها، وبين الأدب الذى لا خلاف الآن على أهميته وقيمته.
على مدى صفحات الرواية الـ 122 وفى ثنايا السرد الروائى تظهر أمام المؤرخ فى الكتب والدراسات حقائق وتفاصيل ووقائع تجابهه، بينما فى نومه يحلم بالجانب الآخر من الحقيقة المجهولة، بالمسكوت عنه والمخفى والمضمر الذى لا يجده فى الكتب ولا الدراسات ولا المؤلفات الرصينة!
«الأدب» هنا هو هذا الوجه الآخر الذى يملأ الفراغات، ويسد الفجوات، ويطرح التفسيرات.. إلخ، بواسطة الخيال الروائى أو ما يطلق عليه النقاد «التخييل الروائى»، فما سكت عنه التاريخ «الرسمى» أو جرى تهميشه فى التاريخ، يمكن للرواية التاريخية عن طريق الخيال والتخييل أن تسد هذا العجز أو هذا النقص المتصور. هذا باختصار ما أتصور أن الرواية التاريخية تقدمه للمؤرخ والأديب معا.
أما لماذا اختار محمد عفيفى شخصية المعلم «يعقوب» التى أثارت الكثير من الجدل فى التاريخ المصرى الحديث محورا لروايته؟
فلأنها شخصية «خلافية» فى التاريخ، وبلغة الكتاب والأدباء هى شخصية ذات «قماشة عريضة»، يمكن أن تلهم بالكثير من اللعب والافتراض والتفسير والتأويل.. إلخ. ولأن كل بلد سنجد فيها مثل هذه الشخصية؛ «يعقوب» الذى تعاون مع المحتل أو المستعمر فى مرحلة من مراحل تاريخ هذا البلد أو ذاك، ويمكن خضوع هذا التعاون لكثير جدا من التفسيرات والتأويلات، ومناظير مختلفة ومتعددة للتناول والقراءة.
ــ 4 ــ
وهكذا، مثلت شخصية المعلم يعقوب لمحمد عفيفى مادة «مغرية» لكتابة هذه الرواية، ومن ناحيةٍ أخرى، فلربما قصد كروائى (وليس كمؤرخ) إلى كسر تابوهات؛ من أهمها أو على رأسها تابو ما يسمى بالحقيقة التاريخية؛ فليس ثمة حقيقة تاريخية نهائية، الحقيقة دائما نسبية، ومن هنا يُطرح إشكال أو سؤال مهم أمام المؤرخ: كيف له أن يكتب ما يرى أنه ليس فى ضرورة إلى وضع هامش فى الأسفل لتوثيقه أو إحالته أو رده إلى مصدر! الروائى متحرر من ذلك تماما!
التابو الثانى أن الدراسة التاريخية فى عالمنا العربى مكبلة بفكرة «القداسة»؛ سواء القداسة الدينية أو القداسة الوطنية، فالمؤرخ كباحث فى العلوم الإنسانية فى العالم العربى، لا يمكنه أن يكون حرا تماما فى عملية النقد أو المراجعة أو المساءلة؛ لأن هناك دائما وطول الوقت محاذير دينية، ومحاذير قومية (أو وطنية).. إلخ.
أما الروائى فمساحات التخييل الروائى تحرره تماما من هذه القيود، وتبيح له أن يقول ما لا يستطيع أن يقوله المؤرخ فى دراساته التاريخية الأكاديمية؛ وبذلك تنقضى مقولة إن المؤرخ هو الذى يروى الحقيقة، والحقيقة وحدها، بزعم حرصه على الموضوعية!
ــ 5 ــ
عمد محمد عفيفى إلى المزج بين أشكال متعددة للسرد، إذ يبدو أنه قصد إلى كتابة سيرة ذاتية صريحة لمؤرخ وباحث متخصص، فى حين أنه أراد أن يكتب عن نموذج «المؤرخ»؛ أى مؤرخ قد يكون فى القاهرة أو تونس أو الرباط بالمغرب أو لبنان.. إلخ أو فى أى مكان آخر. كذلك الشخصية المحورية «يعقوب»؛ فهناك دائما نموذج «يعقوب» فى كل بلد، وكل ثقافة.
من ثم تفتتح الرواية، وكأنها رواية سيرة ذاتية، ثم يفاجأ القارئ بأنها تنفتح سرديا على مروياتٍ وعوالم أخرى من الخيال والأحلام والفرضيات، والانتقال من دائرة التوثيق التاريخى، وفكرة الوثيقة، إلى التحرر من كليهما معا.. ثم اختلاط كل هذه الأنواع والأشكال معا فى صياغة قد تبدو أنها رواية تاريخية «تقليدية»، وصولا إلى النهاية المفاجئة التى تكسر كل التوقعات والاحتمالات، وتفتح الباب على مصراعيه لآراء وتأويلات وتفسيرات لا نهاية لها ولا حد.