ينفرد الاستفتاء على الدستور السورى بين الاستفتاءات المعروفة فى العالم بأنه جرى فى ظل حرب حقيقية يخوضها نظام ضد جزء حيوى من شعبه. لم يخطر فى بال النظام ان يعلن هدنة ولو ليوم واحد ليمر التصويت بسلام. ولا سمحت آلته العسكرية لأهالى حمص وسائر «المواقع الحربية» فى طول سوريا وعرضها، بدفن موتاهم بكرامة دون إطلاق النار على المشيعين، ولا تمكن الهلال الأحمر أو الصليب الأحمر الدولى من إخلاء الجرحى ونقل المعونات الغذائية والصحية للبلدات والاحياء والمدن والقرى والضواحى المحاصرة والمجوعة.
كان يوم الاستفتاء يوم حرب «عاديا». تأكيدا على «عاديته»، سجل اليوم الذى تلاه ارتفاعا بات مألوفا فى منسوب القتل حين يستغل النظام المناسبات «السياسية» من مثل قبوله الوساطة العربية أو موافقته على مجئ المراقبين العرب أو بحث قضية سوريا فى الأمم المتحدة لشن جولة دموية تصعيدية من جولات «الحسم» الذى لا يأتى. تأتى بدلا منه الكارثة اليومية.
تأكد واقع الحال هذا فى تصريح للرئيس الأسد يوم الاستفتاء. قال «إنهم اقوياء فى الإعلام ولكننا أقوى منهم على الأرض». وهو لم يكن يتحدث طبعا عن قوات الاحتلال الإسرائيلى فى الجولان. بل يكرر المعادلة الغرائبية إياها عن تغييب السوريين المتظاهرين والمعتصمين والمناضلين ضد نظامه منذ ما يقارب السنة، ومعهم ضحاياهم وجرحاهم ومعتقلوهم والمخطوفون والمختفون منهم، بتحويلهم إلى كائنات تليفزيونية افتراضية تخترعها الفضائيات الخليجية. والرد على «قوة» الإعلام الخليجى هو طبعا القوة المدرعة والمدفعية «على الأرض».. السورية.
لا ينفرد الاستفتاء السورى بالأسبقية المذكورة أعلاه فقط. تصعب إقامة الصلة بين التصويت على الدستور فى يوم حرب عادى وبين خلاص السوريين من الحرب بأيامها ولياليها.
تراجعت نسبة الموافقين على الدستور. تراجعت عن المعهود فى العهد الذهبى للديكتاتوريات السورية والعربية. وبغض النظر عن دقة الارقام، فالمؤكد ان من قصد مراكز الاقتراع وصوت بـ«نعم» لم يصوت لما يحتويه الدستور الجديد من «إصلاحات» بقدر ما صوت لما فيه من استمرارية. صوت خوفا من مجهول. وصوت اتقاء لقمع. وصوت حفاظا على وظيفة أو مصلحة. وصوت خشية من الفوضى. وصوت فزعا من أصوليات وسلفيات. صوت نصف السوريين حفاظا على الوضع الراهن، أى على نظام سياسى قائم على السلطة شبه المطلقة لحاكم فرد قوى زيدت صلاحياته بدل ان تنقص. هذا ليس بالامر التفصيلى. تناقلت وسائل إعلام عربية نتائج استطلاعات للرأى تفيد ان النظام فى دمشق لا يزال يحظى بتأييد ما يزيد على نصف السكان. مع ان الاستطلاع المذكور اقتصر على عينة من ألف مواطن سورى فقط، فإن الامر يستحق التعليق. عندما يكون اقل من نصف سكان سوريا بقليل لا يعارضون النظام فى استطلاعات الرأى، بل يعارضونه بكافة اشكال الاحتجاج على مدى سنة بأكملها، يطالبون بسقوط النظام برمته ومحاكمة المسئولين عنه، وعندما يلجأ جنود وضباط فى القوات المسلحة إلى الانشقاق والرد على عنف النظام المسلح بالعنف المسلح، بل يلجأ محتجون مدنيون سلميون إلى حمل السلاح، عندما تكون النسبة الاقل من نصف السوريين ممن يعارض النظام على هذه الحال، أليس الاجدر رمى حسابات «الاكثرية البسيطة» إلى المزبلة؟
مهما يكن، لم يكن هذا التصويت الاكثرى على الدستور ذا صلة بـ«حل» ما، بقدر ما كان اقرب إلى تظاهرة قوة إعلامية للنظام لم تبز قوة الاعلام الخليجى، وذلك باعتراف رئيس الدولة ذاته.
•••
ما له صلة بـ«حل» هو دخول سوريا مرحلة جديدة من مراحل التعريب والتدويل تتنافس عليها مشاريع «الحلول».
عاد «الحل اليمنى» جريا على «المبادرة الخليجية» إلى الظهور بعدما اقترحه الرئيس التونسى الجديد، المنصف المرزوقى، فى افتتاح «مؤتمر اصدقاء سوريا». يفيد إلقاء نظرة عليه قيد التطبيق «على الأرض» فى اليمن. قضت المبادرة بأن يغادر رئيس دولة اليمن بعد اعفائه، ومعاونيه، من أى محاسبة أو مساءلة أو عقاب، من ارتكابات وجرائم وهدر وفساد خلال سنة من حكمه. وما ان غادر على عبدالله صالح، حتى عاد بعد زيارة قصيرة إلى الولايات المتحدة، ليسلم الرئاسة إلى نائبه، وعضو قيادة حزبه، عبدالرب منصور هادى. ولا يزال على عبدالله صالح زعيم اكبر حزب فى البلاد يتقاسم مقاعد مجلس الوزراء مع معارضة رسمية، أقوى مكوناتها «التجمع اليمنى للاصلاح»، الحزب الاسلامى القبلى الذى حكم البلاد إلى جانب على عبدالله صالح معظم سنى ولايته. ولا يزال الرئيس السابق يتزعم اكثرية نواب مجلس الشعب ويسيطر ابناؤه وابناء اشقائه على الاجهزة الامنية ووحدات النخبة من الجيش وعلى قسم كبير من القوات المسلحة بما فيها سلاح الطيران. تنهض فى وجه هذه «المبادرة الخليجية » ــ التى تجاهلت ابرز قضيتين فى البلاد ــ الحراك الجنوبى والحركة الحوثية ــ معارضة شعبية يلعب الشباب الثائر فى امتداد المناطق اليمنية دورا كبيرا فيها من دون ان يقتصر الامر عليهم. تدعو المعارضة إلى منع على عبدالله صالح من ممارسة العمل السياسى واقصاء اعوانه عن القيادة العسكرية بقدر ما ترفض العفو عنه.
تحمل المبادرة الخليجية كل بصمات السياسة الأمريكية لاستيعاب الثورات الشعبية. وحتى لا تترك الإدارة الأمريكية مجالا للشك فى اعتمادها الدائم على الجيوش قاعدة للسلطة السياسية فى البلدان العربية، اكد السفير الأمريكى ان بلاده تحبذ استمرار التعاون مع ابناء على عبدالله صالح واقربائه فى الجيش والامن. وأردف معلنا قرار حكومته تأهيل وتدريب القوات المسلحة اليمنية تعزيزا لدورها فى الحرب على الارهاب.
من جهته، كاد النظام السورى ان يقنع الادارة الأمريكية بأنه يخوض معركة ضد «الارهاب الدولى» على خطى المخلوع على عبدالله صالح. أو هكذا تبين من تصريح بدا غريبا للسيدة كلنتون اعلنت فيه أن «تنظيم القاعدة» صار جزءا من المعارضة. لكن الموقف الأمريكى يدور مدار اشكاليات جيو استراتيجية عويصة. يتجاذبه اغراء اضعاف ايران عن طريق تغيير النظام السورى أو فك ارتباطه بها وتنتابه فى المقابل الهواجس عن البديل وعن القوة القادرة على ضبط الحدود الشمالية لإسرائيل و«المونة» على حزب الله فى لبنان. فهذا تصريح لكلنتون يجب ذاك، إذ انتقلت إلى تحريض الجيش ورجال الاعمال والاقليات على الانشقاق وعادت إلى التلويح بتسليح المعارضة.
•••
على ان مشكلة الدبلوماسية الأمريكية ان «الحل» العربى الذى اتكلت عليه معربا ومدولا وقع فيه الانشقاق. فمشكلة تطبيق «الحل اليمنى» فى سوريا ان راعيه الاصلى لم يعد يرتضى به حلا لسوريا. ذلك هو فحوى الانشقاق السعودى الذى قضى عمليا على نتائج مؤتمر تونس والالتحاق القطرى به. ليست حسابات النظامين متطابقة، ففى حين يغلب الاول حسابات العداء لإيران، عادة ما يقيس المبادرات حسبما تقدم له من فرص الزعامة للحلول أو لعب دور الوسيط الاوحد أو الرئيسى فيها.
بانتظار جلاء مصير هذه الانشقاقات، يبقى «الحل» الروسى. وآخر اخباره ان النظام الذى يرفض محاورة شعبه ــ الا بالرصاص والقذائف ــ كلف الراعى الروسى استمزاج بعض قادة المعارضة السورية فى امر تشكيل الوزارة العتيدة. ومعلوم ان لروسيا منذ شهور مبادرات فى هذا الموضوع بل ولها مرشحوها للرئاسة والتوزير.
وهذا لا يسمى تدخلا فى الشئون الداخلية السورية.