«سندباد مصرى».. فن صناعة الحضارة! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 7:03 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«سندباد مصرى».. فن صناعة الحضارة!

نشر فى : الجمعة 29 مارس 2019 - 9:30 م | آخر تحديث : الجمعة 29 مارس 2019 - 9:30 م

فى مقال نشره بدورية (أخبار الأدب)، عام 2016، يحكى المؤرخ والمثقف ذو الضمير النزيه عماد أبو غازى أنه فى صيف 1967، وفى أعقاب هزيمة يونيو، وجهه والده (الفنان والمثقف الراحل بدر الدين أبو غازى) فى محاولة منه لإخراجه من حالة اكتئاب ما بعد الهزيمة، لقراءة ثلاثة كتب على التوالى؛ هى: «سندباد مصرى ـ جولات فى رحاب التاريخ» لحسين فوزى، و«شخصية مصر» لجمال حمدان، و«أيام لها تاريخ» لأحمد بهاء الدين، عله يجد فى دروس التاريخ سلوى وعزاء.
وفى ظنى، انفرد «سندباد مصرى ـ جولات فى رحاب التاريخ» بين هذه المجموعة من الكتب الذهبية (ويمكن إضافة عناوين أخرى لها) بمكانة خاصة، وانتشار واسع؛ كونه فعلا من أجمل وأمتع الكتب التى تروى تاريخ مصر منذ الفراعنة حتى العصور الحديثة، بطريقة فاتنة،‏ وكتابة جميلة جدا تحتفظ للتاريخ بحقائقه الواضحة، يقدمها فى أسلوب فنى سلس، ساحر وبديع.
بدأ المرحوم حسين فوزى كتابة «سندباد مصرى» فى أكتوبر عام 1954 وانتهى منه فى أكتوبر عام 1959، أى إنه من أسبق الكتب التى توجهت إلى قارئ عام مباشر خارج دائرة الكتب التاريخية المتخصصة الصارمة، لم يسبقه سوى كتاب أحمد بهاء الدين «أيام لها تاريخ» الذى صدر عام 1954. توجه حسين فوزى بكتابه ومادته التاريخية مباشرة إلى القارئ غير المتخصص؛ قارئ لا يعنيه النظر فى المصطلحات والمناهج والمفاهيم والتوثيق الشكلى الصارم؛ إنما يعنيه فى المقام الأول أن يتعرف ويعرف، أن يكتشف ويستكشف، ولو كان ذلك مقرونا بمتعة فنية فإنه يكون قد ظفر ظفرا كبيرا.
ومنذ صدوره للمرة الأولى عام 1959، أصبح الكتاب ملهما بكل ما تعنيه الكلمة؛ تنفد طبعاته ويتجدد الإلحاح فى طلبه؛ على كثرة ما صدر من طبعات عن دار المعارف، أو ما صور عنها فى سلاسل النشر الحكومية المختلفة (طبع أكثر من مرة فى «مكتبة الأسرة»، وفى سلسلة «ذاكرة الكتابة» عن هيئة قصور الثقافة، وكانت آخر طبعة منه صدرت عام 2016 بمقدمة للدكتور عبدالمنعم محمد سعيد).
كان «سندباد مصرى» أول كتاب أقرأه بكامله فى التاريخ المصرى وأنا شغوف مبهور الأنفاس؛ أذكر أننى اشتريت الكتاب من إحدى دورات معرض القاهرة للكتاب، ثمنه 8 جنيهات (طبعة دار المعارف القديمة بشكل حروفها المميز ودقة الطباعة والمراجعة)، وكنت فى ذلك الوقت أقرأ ما يكتبه المرحوم جمال الغيطانى فى «يومياته» عن مؤرخه الأهم ابن إياس المصرى وكتابه «بدائع الزهور»، وعن اللحظة المأساوية فى تاريخ مصر حين دخلها السلطان العثمانى سليم الأول غازيا لتدخل مصر فى أنفاق كابية ومظلمة لم يبددها ومضات متفرقة ومتشذرة على مدى نحو 300 عام.
انبهر حسين فوزى منذ صباه بالأهرامات وأبى الهول والآثار المصرية القديمة، وربما كان هذا العشق الباكر للحضارة المصرية القديمة السبب فى دعوته الحماسية المنادية بالقومية المصرية التى اعتبرها المنبع والمصب فى تحديد مقومات الشخصية المصرية. وكانت هذه الفكرة هى المنطلق والدافع لتأليفه «سندباد مصرى»؛ يسجل على الورق اعترافات عاشق متيم بمصر، عشقه لها كان أنفاس وجوده، ومن أجلها كتب وحاضر وألّف وشرح الكثير من آرائه وأفكاره حولها..
بعض أساتذة التاريخ يصنفون «سندباد مصرى» بأنه كتاب خالص فى التاريخ، ولكنه التاريخ المتأدب؛ فهو عبارة عن لوحات ومشاهد قصصية لفترات تاريخية مصرية، مكتوبة ببراعة وحرفية أدبية عالية، بحيث تمثل فى مجملها قطعا فنية من الجمال والسمو الأدبى! صور ومشاهد من الحياة المصرية، عبر العصور؛ يسلط من خلالها حسين فوزى الضوء على الشعب المصرى ذاته وصناعته الأصيلة: صناعة الحضارة. وكان يرى أن التاريخ المصرى بحكم طوله وتنوع وسائل دراسته، مقطع الأوصال كأنه تاريخ أمم متعاقبة، لذا فإنه سعى فى «سندباد مصرى» إلى عرضه لنا فى قصة واحدة «متكاملة»؛ بطلها الشعب المصرى وحده.
ومن بين كل الكتب التى أخرجها فى سلسلة «سندبادياته» انفرد «سندباد مصرى» بذيوع لا يقارن بالكتب الأخرى على قيمتها وأهميتها وجمالها، ومن بينها كنزه المنسى وكتابه المبهر الفاتن الذى لم أقرأ مثله فى الأدب العربى الحديث، «حديث السندباد القديم»، والذى يستحق حديثا مستقلا..
(وللحديث بقية)