يوما بعد يوم تحتل فكرة الاستغناء عن المدارس أرضية أوسع، ويكتسب التدريس المنزلى بريقا خاصا، حيث يمكث الطفل مع أسرته، يتلقى العلوم المختلفة دون أن يدخل الفصل أو يستمع إلى شرح المعلمين التقليديين، ودون أن يختلط بأقرانه من المرحلة العمرية ذاتها. انتشر تعليم المنازل فى الولايات المتحدة الأمريكية وصار ظاهرة؛ إذ أبرزت الإحصاءات الرسمية فى السنوات الأخيرة أن هناك ما يزيد على مليونى طفل وطفلة فضل أباؤهم وأمهاتهم أن ينتزعوهم من النظام التعليمى المعتاد، وأن يهتموا بتحصيلهم بعيدا عن المدارس، وهى نسبة كبيرة من مجمل عدد التلاميذ.
تصورت أن التعليم المنزلى أمر مقتصرٌ على الدول الغربية إلى أن سمعت فى أحد البرامج الإذاعية مذيعا يتحدث بانفعال عن أزمة التعليم فى مجتمعنا. كان يدافع عن الوضع الراهن ويؤكد أن التعليم فى مصر بخير، وقد استند فى دفاعه إلى وجود ما أسماه بالتعليم «البديل»، وقال إن المصريين أنشأوا نظام تعليم مواز، يقوده الأهالى من البيوت، ثم اكتشفت بمحض المصادفة أن صديقا عزيزا قرر أن ينضم إلى زمرة الآباء الخائفين على أولادهم من نظامنا التعليمى، ففضل أن يعلم ابنه فى البيت وأن يقصر صلته بالمدرسة على أداء الامتحانات حتى ينال الشهادات المطلوبة.
***
تقول بعض الدراسات والمقالات المتخصصة إن العائلات الأمريكية التى تتجه لتلقين أبنائها تعليما منزليا، تملك دوافع وأسباب محددة، منها على سبيل المثال ما يتعلق بالدين، فالبروتستانتيون لا يحبذون تلقى أولادهم قيم الليبرالية التى تهتم بها الدولة. هناك أيضا من يخافون على أطفالهم النزعات العنصرية التى تنتشر فى عديد المدارس، حيث يكون الطفل أسود البشرة ــ وفقا للدراسات ــ عرضة للمعاقبة والفصل أضعاف ما يحدث للأطفال الآخرين. سبب ثالث وهو فى ظنى الأكثر إدهاشا، يتلخص فى أن بعض أولياء الأمور يرون المادة التعليمية فى المدارس غير كافية وأن أطفالهم قادرون على استيعاب المزيد.
لا يتوجه الآباء لدينا إلى التعليم المنزلى لأى من الأسباب الفائتة. لا لعقيدة دينية ولا لنزعة عنصرية ولا لأنهم يريدون علما أكثر، بل لأن النظام التعليمى المصرى أثبت ترهله وعدم جدواه بالمقاييس كافة. المناهج طويلة محشوة رغم أنها لا تحمل معلومات غزيرة، الاختبارات لا تقيس قدرة الطالب على الفهم أو التفكير، المعلمون يبتكرون أساليب ملتوية لتحفيظ طلابهم وكأنهم بلا عقول، أما على مستوى التخطيط فحدث ولا حرج، سنوات تضاف وسنوات تنتقص وسنوات تنضم إحداها إلى الأخرى ثم تعود للانفصال، وفى ما خاضته الشهادتان الابتدائية والثانوية من صراعات مريرة خير دليل.
بعض محاولات التطوير التى سعى إليها المسئولون كانت بدورها هزلية. رأوا أن الأزمة تتركز فى شكل الكتاب المدرسى فوزعوا على الطلاب «تابلت». أثبت التقييم فيما بعد فشل هذا التابلت فى تحقيق المراد؛ إذ لم يتمكن المعلمون من استخدامه بشكل مفيد، وقد عرض كثير من الطلاب أجهزتهم للبيع واستخدمها البعض الآخر فى تحميل الموسيقى والأغانى.
***
ثمة أشياء تستدعى من الماضى ويقابلها الناس باحتفاء شديد لم يكن لها من قبل. بعض الأزياء التى مثلت «الموضة» فى الستينيات عاودت الظهور بعد عقود لتستخدم فى القرن الحادى والعشرين ومثلها تصفيفات الشعر. بعض العلاجات التى عدت من ميراث الجهل، راجع نفرٌ من العلماء رأيهم فيها وبدأوا الحديث عنها وإجراء الاختبارات عليها إذ وجدوا لها فوائد حقيقية تنتمى إلى العلم لا الخرافة. أساليب التعليم العتيقة تعود هى الأخرى إلى بؤرة الاهتمام، وقد تعالت منذ فترة قصيرة أصواتٌ تطالب بالرجوع إلى نظام الكتاتيب بل وطبقته بعض القرى والمحافظات، والحق أن الكتاتيب قد تكون أكثر جدوى من المدارس الحكومية بوضعها الحالى، بل وقد تكون الدراسة المنزلية إذ ما توافر لها حسن التخطيط، أكثر نجاحا من الاثنتين.
يطرح تنامى مجتمع التعليم المنزلى أسئلة متعددة حول ما إذا كان التعليم خارج الأطر التقليدية أكثر فائدة، وما إذا كانت العودة إلى مرحلة منقضية من التاريخ تسبق وجود المؤسسات التعليمية، أجدى نفعا للطرفين. يقول الصديق الذى يعمل على تنشئة ولده فى البيت إن الطفل صار أصح عقلا وأفضل تحصيلا وإدراكا وأسرع استيعابا منذ امتنع عن الذهاب إلى المدرسة. ينتهى كل ماض، لكن قسم منه يظل حيا حيويا، نلجأ إليه حين نصطدم بواقع عملى يجبرنا على إعادة التفكير، نستحضره وقد أصبحنا أكثر تواضعا ومرونة، وربما بتنا أيضا أعمق تقديرا لفائدته وحكمة من ارتضوه من الأولين. قد تكون لدينا أسباب مختلفة عما لدى مجتمعات الغرب إزاء مسألة التعليم من البيت، لكننا فى نهاية الأمر قرية كبيرة تنتقل فيها الأفكار بأسهل مما ينتقل الهواء، وخاصة حين يشتد الظمأ وتنعدم القدرة على التقاط الأنفاس.