سرادق عزاء: المتوفى ينتمى لمؤسسة من المؤسسات العريقة للدولة. أذهب لتأدية واجب المواساة. أجلس كعادتى بعيدا عن مدخل السرادق. أعتزم البقاء حتى ينتهى المقرئ من قراءة «ربعين» من القرآن الكريم.
وسط الوجود الكثيف لمتوسطى العمر وكبار السن من الرجال، يسترعى انتباهى التشابه الطاغى فى مظهر ولغة جسد وتعبيرات الوجه لمجموعة يتراص أفرادها فى مقاعد متجاورة وصفوف متتابعة.
هم ولا شك من موظفى المؤسسة العريقة التى ينتمى إليها الفقيد. أفكر فى تفسير مقنع للتشابه. هل يفرض دولاب العمل اليومى على موظفى المؤسسة ذات المظهر؟ هل ترتب طبيعة مسئولياتهم وتخصصاتهم ونوعية القضايا التى يعملون عليها تطابق لغة الجسد وتعبيرات الوجه؟
أواصل التفكير. تدريجيا يتسرب إلى الذات ارتياح نفسى للتشابه الماثل أمامى، أرتاب فى أمرى. أتوقف عن مراقبة الحضور. أستمع إلى المقرئ صاحب الصوت الجميل بتركيز حتى ينتهى من «الربعين»، ثم أغادر السرادق.
لا تفلتنى مسألة تشابه مظهر ولغة جسد وتعبيرات وجه موظفى المؤسسة العريقة من سياق التفكير فيها، ولا يدعنى الارتياح المريب للتشابه وحالى. أبحث فى الذاكرة، فتهدينى إلى والدى رحمه الله. كان والدى من ضباط الشرطة، وعمل فى مصالح مختلفة بوزارة الداخلية لم تكن تشترط الحضور بالزى الرسمى (الميري) الموحد. فى عطلة الصيف المدرسية، كان والدى يأخذنى أحيانا معه إلى مكان عمله، وكثيرا ما لفت نظرى تشابهه هو وزملائه فى المظهر ولغة الجسد وتعبيرات الوجه، وبالقطع فى اللغة الأخرى ــ لغة الكلام.
ثم يفيض نهر الذكريات الشخصية، فيذهب بى إلى خالى أطال الله فى عمره، المهندس الزراعى الذى كان يعمل فى ديوان وزارة الزراعة والذى أستطيع بوضوح بالغ استرجاع تفاصيل زيارتى الوحيدة له فى مكتبه ــ كوب الليمون المثلج، الشيكولاتة البمبو، التشابه إلى حد التطابق فى مظهره ومظهر زملائه «ببدلهم الصيفية» ذات اللون الواحد. ومن خالى إلى أهلى فى الصعيد، والسيدات المتقدمات فى العمر بمظهرهن الذى كنت أراه دوما موحدا ولغة جسدهن المتطابقة، وحبيبتى والدتى رحمها الله التى كانت ترشدنى بصوتها الساحر إلى بعض الاختلافات الدقيقة فى غطاء الشعر وفى تطريز الأزياء وفى سرعة أو بطء حركة الأيادى. ومن الصعيد، قفزة زمنية بعيدة أولى إلى تشابه مظهر زملاء الدراسة الجامعية من سكان «المدينة» ــ المدينة الجامعية التابعة لجامعة القاهرة، ثم قفزة زمنية بعيدة ثانية إلى سنوات دراسة الدكتوراه فى جامعة برلين واكتشاف التشابه الشديد فى مظهر ولغة جسد وتعبيرات وجه الطلاب الوافدين من الصين ومن غيرها من البلدان الآسيوية ــ باستثناء اليابان التى كان طلابها يحاكون الأوروبيين والأمريكيين فى المظهر ولغة الجسد وإن ظل لهم الصوت الخفيض الذى يميزهم عن غيرهم من شعوب الأرض.
أخرج من نهر الذكريات، وقد حمل لى شيئا من التفسير الذاتى للارتياح المريب للتشابه وبعض التفسيرات المهنية (جهة العمل)، والمناطقية (الصعيد)، والاقتصادية ــ الاجتماعية (طلاب المدن الجامعية) للتشابه بين الناس ــ وكذلك إشارات عابرة للتشابه بين مواطنى مجتمعات ودول بعينها. أطالع بعض الدراسات التاريخية ودراسات العلوم الاجتماعية على أجد بها تفسيرات إضافية، وأكتشف 1) أن الأديان السماوية والأيديولوجيات الوضعية والديكتاتوريات الحاكمة تشترك جميعا فى العمل على فرض مظهر ولغة جسد وتعبيرات وجه متشابهة إن لم تكن متطابقة على الخاضعين لها، 2) أن البدايات التاريخية للمظهر المتشابه للناس تعود أيضا إلى نشوء المؤسسات الدينية والنظامية (كالجيش والشرطة والقضاء) فى المجتمعات والدول المختلفة وإلى جاذبيتها للعوام، 3) أن القرن العشرين شهد محاولات عديدة لبعض البلدان ذات النظم الاشتراكية أو العسكرية ــ الأمنية لفرض المظهر المتشابه على الناس وتبريره إما بإلغاء التمايزات بينهم أو بأسباب اقتصادية واجتماعية وثقافية أخرى، وأن المحاولات هذه انتقصت بعمق من حق الإنسان فى الاختيار الحر وإن تمتعت بجاذبية المساواة وتجاوز الفوارق، 4) أن لجهات العمل والحياة المهنية المختلفة بالفعل مظهر موظفيها ولغة جسدهم وتعبيرات وجههم المتشابهة بفعل تفاصيل العمل اليومى وطبيعة المسئوليات المرتبطة به ــ ولذلك لم يكن ما لاحظت فى سرادق العزاء بمستغرب أبدا.
غدا.. هامش جديد للديمقراطية فى مصر.