الذات الرقيبة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:17 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الذات الرقيبة

نشر فى : الجمعة 29 يونيو 2018 - 9:35 م | آخر تحديث : الجمعة 29 يونيو 2018 - 9:35 م

أخذ الفيلم تصريحًا مِن الرقابة، سحبت الرقابةُ التصريحَ، بحث المجلسُ أخطاء المسلسلات التلفزيونية وخطاياها، وَضعت اللجنةُ تقريرًا يُعدّد السقطات الأخلاقية والزلَّات غير المقبولة. تحدَّث نقيبٌ عن الفنّ النظيف، وثانٍ عن ملابسُ الفنانين، وأمسك رجلٌ بآخر؛ مُشككًا في صيامه خلال نهار رمضان.

***

منذ قامت المُجتمعات وظهرت النُظُم الأولية لحياة اجتماعية مشتركة، والناسُ يمارسون أدوارًا مُحدَّدة مَرسومة؛ يضطلع فيها بعضُهم بمتابعة الآخرين وتقويمِهم. أحيانًا ما تكون المُتابعة صارمة، وفي أحيان أخرى تصير مَرنة مُتراخية؛ لكنها دائمًا حاضرة على اختلاف الوسيلة، تتحكَّم فيها الظروفُ والأجواء.
بدءًا مِن نشأة الدولة القديمة وصولًا إلى الحديثة، دشَّن أولو الأمر أجهزةً متنوعة، تتشارك المُهمَّة الجسيمة؛ مُهمَّة فرض رقابة لصيقة على عقول الناس وأفكارهم، وعلى تصرفات المارقين منهم تحديدًا.

***

عندنا الآن رقباء كثيرون؛ مِنهم مَن يحوز الصفة الرسميّة، ومِنهم مَن يؤدي الدور مُتطوعًا. عندنا رقيب على الفنّ والمُصنَّفات الفنية بمُختلَف صورها، ورقيب على الكلمة المكتوبة في كلّ دار وصحيفة، وجهاز خاص يراقب المطبوعات وينقّيها، بل ووسائل حديثة تراقب المواقع التواصلية كل دقيقة. عندنا كذلك مَن يُنصّب نفسه رقيبًا على الأخلاق، كما تحيط بنا جمعياتٌ ومجالسُ ولجانٌ؛ يترأسها حماةُ الفضيلة.
عندنا أيضًا رقباءٌ في الشوارع يتتبَّعون السائرين؛ يسترقون السمعَ لكلمات الغضب المُنفلتة مِن الأفواه، ويترصَّدون الهمساتِ الشاردة والإيماءات، بل وكثيرًا ما يتجسسون على نوايا الناس. عسسٌ جُدد؛ يظهرون في أي وقت مِن غياهب الليل أو أطراف النهار؛ ليمارسوا وظيفتهم بهِمَّة ونشاط.

***

الرقيبُ في القواميس هو الحارسُ الحافظُ، وله في مُعجم المعاني الجامع وصفٌ أكثر حداثة: "مَن يراجع الكتبَ والصحفَ قبل نشرها، ليحذِف منها ما يخالف الآدابَ، أو سياسةَ الحكومة“. أما في الخطاب الدينيّ؛ فالرقيب اسم مِن أسماء الله الحسنى؛ صيغة مُبالغة على وزن ”فعيل“، تفيد بأن صاحبها مُطَّلع على مَكنون الصدور، لا يخفى عليه شيء؛ صَغُر أو عَظُمَ. الرقيبُ كذلك منصبٌ عسكريّ؛ هناك رقيب أول ورقيب ثان؛ ولكل منهما مرتبةٌ ومَكانة خاصة، تميزه عمَن دونه مِن المواطنين.

***

يقول ابن حزم في "طوق الحمامة" إن مِن آفات الحب الرقيبَ، يصفه بأنه "لحمى باطنة، وبرسام مُلح، وفكر مُكب" أي؛ شخص يرافق المُحبين، فلا يغمض له عنهم جفنٌ؛ وكأنه علَّةٌ مُزمِنة. يُصنف ابن حزم رقباءَ المُحبين إلى عدة أنواع؛ فمنهم مَن لا يتعمَّد التطفُّل؛ بل تضعه الظروفُ موضعَ الرقيب، ومِنهم مَن يجذبه مَرأى العشَّاق؛ فيدسُّ بينهم نظراته ويرهف مَسامعه، ومِنهم كذلك مَن يتم تكليفه بالمراقبة؛ ليمنع وقوع الخطأ أو يبلغ بأمره. ثمّة رقيبٌ مُتعاطِفٌ بين أولئك وهؤلاء؛ يغلق عينيه عما يرى ويوالي الوَلِهين، وفيه يقول ابن حزم: "كان سمًا فصار درياقًا … صار حياة وكان سهم ردي".

***

يبدو أن الرقابة الخارجية المُكثفة، تؤسس لظهور رقيب داخليّ يؤدي العمل نفسه؛ رقيب ذاتيّ لا يمكن التحايل عليه ولا الهروب منه. على سبيل المثال؛ حين يتعرض فنان أو كاتب إلى منع أو حذف يشوه عملَه، يتولَّد داخله شعور بالظلم والضيق، ولأن ما باليد حيلة أمام جبروت الرقيب، يحاول المَظلوم أن يتجنب مشاعر القهر، وأن يجعل الأمرَ بيده لا بيد عمرو؛ فيستبق الحذفَ بحذفٍ، والمنعَ بامتناعٍ، والتوبيخَ بندمٍ؛ على ما اقترف أو ما لم يقترف. يتحول إلى رقيب وخاضع للرقابة؛ إلى فاعل ومفعول به في آن.
المدهش أنه كُلَّما أحكم الرقيبُ الخارجيّ قبضَته، تشدَّد الرقيب الداخليّ وتعزَّز وجوده، بل وربما أخذ زمام المبادرة بين الحين والحين. في بعض المواقف يصبح الرقيبُ الداخليّ أكثر تطرفًا ومُغالاة مما هو مطلوب؛ فيغدو في وظيفته مِصداقًا للقول المأثور: "مَلَكيًا أكثر مِن المَلِك".
بمرور الوقت وتكرار الأمر، ينمو الرقيبُ الداخليّ، ويتعاظم دوره عبر المكافأة والإثابة؛ كلما نجح في أداء مُهمَّته، نال صاحبه الإشادةَ والثناءَ، وأُجزِلَت له العطايا، وترقَّى في سلَّم السُلطة الزلِق، وكلما فشل؛ طالَ الأذى صاحبَه بصورة مِن الصور.

***

في لحظات تعِسة مِن التاريخ، تُولَد الذاتُ الرقيبة داخل بشر كثيرين، تنمو في ظلّ الخوف، ثم تتقلَّد الزمامَ؛ تستهدف توفير الحماية والبقاءَ، لا علاقة لها بمعايير أخلاقية أو محاذير دينية أو حتى بتقاليد وأعراف واهية أو مَتينة؛ إنما هي صنيعة الظروف القاهرة. الذاتُ الرقيبةُ؛ ظلٌّ مُصاحِب، يمسك بالعصا لأصله، لا يتركه صحوًا أو مَنامًا.

***

الذات الرقيبةُ تنفخ في الحساء، وفي الزبادي، وفي الهواء أيضًا؛ لعلَّ في نيته أن يؤذيها، أما أصحابها فمساكين؛ لا يجوز في حقهم إلا الرثاء، لا يعرفون بسببها طعمًا للجدال أو السجال، ولا تسمح لهم ظلالهم الشرسة بمُناطَحةٍ أو حتى باستواء.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات