وجهت الكاتبة نهى يحيى حقى على صفحتها بموقع «فيس بوك» مناشدة للسيد عبدالفتاح السيسى رئيس الجمهورية بأمل تدخله لإنقاذ مقبرة والدها الكاتب المصرى الرائد فى منطقة السيدة نفيسة، ولمن لا يعلم فإن تأثير صاحب «قنديل أم هاشم» فى الثقافة المصرية لا يقل إطلاقا عن تأثير طه حسين الذى تدخل الرئيس قبل شهور لإنقاذ مقبرته فى مبادرة نالت تقدير الجميع ونأمل فى تكرارها مرة أخرى قبل أن تحل كارثة جديدة تمس سمعة الثقافة المصرية عربيا وعالميا حيث تخطى حضور حقى وتأثيره الآفاق المحلية.
ووفقا لما قالته نهى حقى لموقع «باب مصر» فقد تلقت إنذارا شفهيا من خلال «التُربى». يشير إلى احتمالية هدم المقبرة لكنها لم تعر الأمر اهتماما نظرا لعدم وجود ما يثبت هذه الأقاويل. وتجدد الجدل هذه المرة بوضع علامة حمراء على مقبرة عائلة حقى ومن بينها «يحيى حقى». وتم إبلاغ «التُربى» وأفراد عائلة حقى بضرورة سرعة نقل رفات الموتى خلال أيام تمهيدا لهدمها لأنها تقع ضمن أماكن تخضع لخطة تطوير بالقاهرة. وأضافت حقى «أبى فى ذمة الله لا يملك الاستغاثة. الوجيعة كبيرة والشكوى لم تعد لها قيمة».
لكنها على الرغم من ذلك لا تزال تأمل فى ايجاد «حل» وتقول «إنه فى حال التأكيد على ضرورة إزالة القبر ونقل رفاته، فترجو أن يتم نقله إلى البقيع الصغير الموجود فى نفس المنطقة تقريبا، وبالقرب من السيدة نفيسة انسجاما مع وصيته فى نهاية حياته بأن يتم دفنه بجوار آل البيت لحبه الشديد لهم الذى استند عليه فى كتاباته كلها».
وحسبما أعلنت فإن العائلة فى حال هدم المقبرة فإنها ستخطط لنقل رفات الراحل لمقبرة أخرى فى منطقة العاشر من رمضان.
أشارت نهى حقى إلى أن ذكرى وفاة الكاتب الكبير يوم 8 من شهر ديسمبر المقبل، ومن ثم فإنها تتزامن مع الوقت الذى تم إبلاغها أنه سيتم فيها إزالة القبر من مكانه لبدء التوسعة وإقامة ميدان فى نفس المكان، وانهت مناشدتها قائلة: «أرجوكم لا تكسروا قنديل يحيى حقى».
من المؤسف جدا أن تضطر نهى حقى لإعلان صرختها دون أن تجد دعما واضحا من الجماعة الثقافية والمؤسسات الأهلية والرسمية المعنية بالحفاظ على الذاكرة الجماعية، فلم نقرأ أو نسمع عن مناشدة وجهتها وزارة الثقافة بكافة هيئاتها أو اتحاد الكتاب بمختلف لجانه لدعوة الدولة للبحث عن حل بديل أو يذكر الذين يخططون لقاهرة بديلة بدور حقى فى صيانة تاريخ القاهرة وهوالذى كرس جانبا كبيرا من أدبه للتذكير بالقاهرة وتاريخها وعمارتها.
قد لا يكون الراحل العظيم فى شهرة توفيق الحكيم وطه حسين أو نجيب محفوظ لكن تأثيره واضح وأقر به هؤلاء جميعا بالصوت والصورة بل إن نجيب محفوظ نفسه أحس بالخجل لأن جائزة نوبل جاءته قبل أن تصل لأستاذه يحيى حقى.
فى تقديرى وتقدير من يقدر إنتاج الراحل فإن المساس بمقبرته كارثة ينبغى التفكير ألف مرة قبل التورط فيها ومن ثم فالأولى بنا العمل على وقفها.
من العبث أننا نحتاج اليوم للتعريف بجهد يحيى حقى فى خدمة الثقافة العربية، وهو مؤشر تقصير نتحمل جميعا مسئوليته إذ لا يكاد تعبير الكاتب الرائد ينطبق على أحد سواه، فهو واحد من الذين جربوا الكتابة فى مختلف الأنواع الأدبية، وبلغ فيها ما بلغ من قيمة واقتدار، كذلك خاض مجال النقد على اتساع تعريفاته، وبلور بالممارسة وبمهارة الفنان وبرؤية الناقد كل إنتاجه الشامل فى سياق التاريخ المصرى بكل صراعاته، واحتفظ لنفسه بصورة أقرب ما تكون لمثقف زاهد ومتصوف.
وعلى الرغم من المناصب التى وصل إليها، سواء فى وزارتى الخارجية أو الثقافة فإنه نأى بنفسه عن أثمان التصنيف والصراع الأيديولوجى، وبقى قيمة عابرة للتيارات الفكرية وللأجيال التى لا تزال تنظر لإنتاجه نظرة مميزة تليق بمقام «الأب الروحى».
ومن المفارقات المؤلمة أننى كتبت كثيرا عن علاقته بالقاهرة ومبانيها بوصفه مؤرخا للوجدان، ووظيفة المؤرخ الذى أقصده كما بلورها يحيى حقى تختلف عن المؤرخ التقليدى، فهو لا يعنى بدراسة الوقائع أو تحقيقها، لأن ما يشغله تأمل علاقة الفرد الهامشى بالمكان، وبفضل جهوده نجح مع كتابات توفيق الحكيم فى صياغة «متخيل وطنى» جامع لقيم ثورة 1919 وأهدافها يتجاوز النظرة الدينية الضيقة، ويركز على قضايا المواطنة، ويتسم بقدر واضح من العقلانية وحب الوطن. وفى كل كتاباته اعتنى كذلك بإجراء المقارنات وتأكيد ثنائية الشرق والغرب، لكن من منظور الاعتزاز بـ«شرقيته» ووصف نفسه بـ«شرقى مصرى، عيار 24، بل خارج من قلب طوبة عتيقة ملقاة فى حى شعبى أو داير الناحية، بقرية بين النخيل وخوار البقر.
ولعل ما يحدث مناسبة جديدة للتذكير بكتابات حقى لكنه تذكير يأتى فى سياق حافل بشتى أنواع الاستقطاب حول ما تشهده مدينة القاهرة اليوم من تغييرات تنزع أحشاءها، ولعل المناشدة التى وجهتها ابنته نهى حقى تجد استجابة من السيد الرئيس أو لعلها تكون مناسبة لاجتماع جديد يجمع خبراء العمارة التاريخية وهندسة الطرق لايجاد حل واضح ينتهى إلى مبادرة لحماية مقابر الخالدين أو تأسيس مقبرة جماعية تضم رفات من يتصادف وجود مقابرهم فى مسارات الطرق المزمع تأسيسها تكون مقصدا سياحيا يشير إلى رغبة مصر فى الحفاظ على رموزها، بدلا من كسرقنديل استنارتها.