كانت الحياةُ مُتدفقةً تسير، والصباحاتُ والنهاراتُ تترى، والمساءاتُ تتوالى وتمضي، والليالي تعقبها قصيرةً وخفيفة، لا يكاد يشعر أحد بها، أو يدري بمكنوناتها؛ كلُّ مواطن في حكايته أسير، وكلُّ مواطنة في قصتها غارقة.
***
دامت أحلامُها غزيرةً مُتتابعة، يتجلى بعضُها مُكتملًا في أبهى صورة، ويسقط ما يسقط مِن الذاكرة، أما البعضُ الآخر؛ فيتجسد مُبتَسرًا وقد أُزيلَت عنه الأشواكُ، وشُذبَت مِنه الحوافُ الجارحة. في الأحوالِ كلها، كانت نبيلةُ تواصل الحلمَ وتصنع مَناماتَها، عفيَّة، بهيَّة، طازجة، لا يعيقها حجرٌ ولا يصدُّها جدار. عدالةٌ تشملُ القاصيَ والدانيَ بلا تمييز، مساحاتٌ مفتوحة وأرضٌ تسع الجميع؛ لا سدود تحجب غنيًا عن فقير، لا قلاع مُترفةٌ حصينةٌ، ولا أبواب مُغلقة في الوجوه. البحر مِلك للناس، والشوارع لهم والسماء، ونبيلةُ التي يموج رأسُها بالأفكار النبيلة، لا تنفكُّ تكافح في أحلامها الأسوار وتملأ الفجوات وتصل ما تمزَّق في الثوب مِن طبقات. مرت الأيامُ وهي على عهدها ثابتة، لدربها مُخلصة، إلى أن فقدت ذات ليلة ما اعتادت مِن رؤى، وبدلًا مِن الأفقِ المُتسع والفضاءِ الرحيب، حاصرها الضيقُ، وصارت جزءًا من كابوس مُمتد، لا مَهرب لها مِنه، وما لاستغاثاتها مِن مُجيب.
***
راحت نبيلة وقد قضَّ الهمُّ مضجعَها تحكي لصاحبتها، وتشكو نكِدة، مَفجوعةً في مصيبتها: "حتى الحلم قبضه الرقيبُ، لم يكتفِ بالتعديل والتهذيب، بل طَمَسه في الليلة الأولى طمسًا، وفي الليلة الثانية بدَّله وجاء بآخرٍ قسرًا، لا رحمة أظهرها حيالَه ولا راودته حيالي شفقةٌ". جزعت مَستورةٌ للكلام؛ فطالما كان المنامُ ملجأها ونِعمَ الملاذ، لا تتجاوز فيه المقبولَ ولا تتطلع إلى المَحظورِ؛ إنما تكتفي بالسترِ في رؤاها، وتجد بفضلها الشبع والرضاءَ، فإذا زارها الرقيب ومنعها عنها أو محاها؛ لما وجدت في خزانتها ما يخفف الأوجاعَ، وما يعين على تحمل الألم، وما يبقيها مَستورة.
***
أخبرت مَستورةُ بدورها صاحبةً ثالثة؛ كان الأمر أخطر مِن أن يبقى سرًا ومِن أن تتحمل تبعاته وحدها. اختفى أيضًا حلمُها وزال، ذاب وتبخر وكأن لم يكُن في سابق الأيام. قالت لطيفةُ أن في تلاشي أحلامِهما سرًا، وأن السرَّ في بئر، وأن البئرَ مَكشوفٌ قاعها؛ لكن أحدًا لا يجرؤ على النظر فيها، ولا على فضح أمرها، ولما جاء المساء، لم تجد لطيفة بدًا من أن تراجع في تأنٍ أحلامَها، وأن تفحصها بحرص قبل أن تدخل الفراش وتمشّط تفصيلاتها؛ لعل فيها ما يجتذب الرقيب، ويدفعه لانتزاعها؛ فتغدو ويا للهول كنبيلةٍ ومَستورة. لم يكن في رؤاها إلا توق لأنفاس مريحة، وصوت طليق لا تكتنفه ارتعاشات خوف أو جزع، ترى في منامها حياة لطيفة طيبة، تتملَّص مِن بؤس القيود وتنفر من الأسلاك الشائكة. رغم فطنتها وحدة انتباهها؛ لم تسفر المراجعة عن تغيير مصيرها، ولم يثمر حرصها ولا شفع في النهاية لها، فقد فقدت هي الأخرى بعد قليل منامتها.
***
جلَسن ثلاثتهن معًا، يتشاورن في ما حَلَّ بهن وما وقع. مِثلهُن مِثل عديد البشر؛ يُعانِدن الحالَ والمُحالَ، ويناورن ما امتنع واستعصى، ويسخرن مما استحال، لا تمثل أحلامُهن خطورة، لا تحمل تهديدًا لعظيم الآمال، أو نذيرًا بالشرور. في لحظةِ طيشٍ عظيمة، أبقين أعينَهن مَفتوحة وقررن أن يخلقن أحلامًا جديدة. لم يكن الحلمُ في صحوهن عسيرًا، بل جاء أنقى وأعتى وأوضح.
***
انصرفت كُلٌّ في طريقِها، وقد كاد العامُ الجديد يبدأ. ثمَّة أحلامٌ تتولَّد، ويشتد عودها ويشبُّ ويمد الجذرَ ويتشعَّب؛ أحلامٌ بأن تتبخر كل سُلطة عَتيدة تفترس البشرَ، وبأن يصبح العالمُ أحكمَ عقلًا وأقل توحشًا. أن يحلَّ الناسُ في قائمة الأولويات؛ مَحَلَّ الخرسانة والحديد والطرقِ والتفريعات، وأن يصبح الوطنُ مُرادفًا للإنسان؛ لا أيقونة تراق في سبيلها الحريةُ، وتُسلَب الكرامةُ، وتُهدَر الأمنيات. على كُلّ؛ لا ضريبة يدفعها الناسُ لقاء الأحلام، لا عُملة تُقدَّر بها، ولا مِقياس يحدد قيمتها أو يُثمّن قدرها. الأحلام تبقى حُرَّة.