أخطر ما يواجه أى مجتمع هو غياب الوعى لدى أفراده، بحيث يتحركون بوحى من غرائزهم، وليس عقولهم. تسيِّرُهم الشائعة أكثر من المعلومة، ويتلاشى بالنسبة لهم القدرة على الحكم السليم على الأشياء، ولكن السؤال الذى يجب أن نطرحه هو: هل يستحق «وعى المصريين» مجلسا يدافع عنهم فى وجه ثقافة الفساد المتفشية.
(1)
فى خضم ردود الفعل التى أحاطت بحادث نجع حمادى صدرت آراء تكشف عن أزمة حقيقية فى الوعى لدى أصحابها. وبالتالى يتعين علينا محاكمة ردود الأفعال بمقدار وعيها بتاريخ الوطن. فى هذا السياق أود التوقف أمام طائفتين عبرتا عن نوعين من ردود الأفعال. الطائفة الأولى تهون من الحادث، باعتباره فرديا، وحتى يكتمل مسلسل التهوين يجرى المقارنة بين ما يجرى فى مصر على صعيد العلاقات المسيحية الإسلامية، وما تشهده الأقليات المسلمة فى دول العالم الغربى.
المقارنة فى ذاتها لا تصح. فلا يجب الخلط بين الأقباط فى مصر، وهم مواطنون، حضورهم الكيانى ممتد لنحو عشرين قرنا فى مصر، وبين أقلية مهاجرة عمرها لا يتعدى نصف قرن. بالطبع نحن ندافع عن حق كل فرد فى الحياة الكريمة فى بلده أو خارجها، ونطالب بصيانة حقوق وحريات الأفراد فى أى مكان، ولكن لا يعنى ذلك أن نطلق مقارنات لا معنى لها، تنم عن عدم وعى ــ فى المقام الأول ــ بالعمق التاريخى للعلاقات المسيحية الإسلامية فى المجتمع المصرى. كارثة حقيقية أن يظن البعض أن فى الإمكان المقارنة بين حال أقباط مصر وبين وضع المهاجرين العرب والمسلمين فى أوربا. وكأن التقدم على صعيد الحقوق والحريات للمواطنين الأقباط رهن بالتقدم الذى يجرى على صعيد الاعتراف بحقوق وحريات المهاجرين فى المجتمعات الغربية. قد نسمع أحاديث «شعبوية» تطالب بالمقارنة بين منارات الكنائس المرفوعة فى مصر ومآذن المساجد المحجوبة فى سويسرا. ولكن أن يتسرب هذا النمط من التفكير إلى ذهن متنفذين فى صناعة القرار السياسى فهو أمر ملفت، ويدعو إلى التأمل.
الطائفة الثانية تحسد الأقباط على النعيم الذى يعيشون فيه مقارنة بالإسلاميين المحاصرين، والمضطهدين، والممنوعين من ممارسة النشاط. مرة أخرى المقارنة لا تصح. حقوق المواطنة هى حقوق مكفولة للمواطن، بوصفه مواطنا، لا فرق بين مواطن وآخر بسبب اللون أو الجنس أو الدين أو الوضع الاجتماعى. المشكلة أن الهوية الدينية للأقباط حاضرة فى وعيهم الجمعى بحدوث تمييز ضدهم، فى حين أن التمييز الذى قد يمارس على الحركة الإسلامية لا يعود إلى كون أعضائها من المسلمين، ولكن لأنهم ــ وهذا هو الأهم ــ يتبنون مشروعا سياسيا بديلا لصيغة الحكم الحالية. وبالتالى قضيتهم سياسية فى المقام الأول، أما قضية الأقباط فهى دينية، طائفية، ثقافية، لكنها ليست سياسية بالمعنى المشار إليه.
(2)
قضية أخرى هى غياب الوعى بالقانون، وأهميته فى تحقيق التوازن والمساواة بين أفراد المجتمع. مثال واضح على ذلك «قانون الضريبة العقارية»، الذى أثار جدلا عاما من ناحية وإصرارا حكوميا عليه من ناحية أخرى، ولكن ما أن أعطى الرئيس مبارك تعليقا غائما حول القانون، حتى فتح الباب من جديد للنقاش حول الموضوع وسط توقعات بإعادة النظر فيه.
والسؤال: لماذا صدر القانون منذ البداية؟ ولماذا لم تستوعب صناعة القانون فى البرلمان النقاشات والآراء المختلفة؟ أسئلة متعددة، لكنها جميعا تكشف عن غياب الوعى بأهمية القانون، والذى تحول إلى «أداة»، مجرد أداة، لإدارة التفاعلات السياسية، فى حين أنه ــ فى المنطق القانونى ــ أداة لتحقيق التوازن فى المصالح، وإرساء علاقات تقوم على الثقة، والمساواة بين الأفراد.
القضية أن القانون لم يعد حاضرا فى الوعى العام، ومعدلات الثقة به منخفضة، ويعود ذلك إلى وجود قوانين تصدر على وجه السرعة فى حين أن هناك قوانين أخرى يجرى المطالبة بها لسنوات دون مردود، يتصاعد الاهتمام بها حينا، ويهبط أحيانا. مثال على ذلك المطالبة على مدى سنوات بإصدار قانون يكفل تداول المعلومات. الهند بها قانون ينظم تبادل المعلومات، والعديد من الدول الأفريقية لديها قوانين مماثلة، أما مصر فلا يوجد بها تشريع ينظم الحق فى الوصول إلى المعلومات، ولا توجد آليات قضائية يمكن بمقتضاها للشخص أن يتظلم من رفض إعطائه المعلومات التى يطلبها.
لم تتضمن الدساتير المصرية المتعاقبة منذ دستور 1923 حتى دستور 1971، قبل تعديله فى 22 مايو 1980، أية نصوص تنظم الحق فى الحصول على المعلومات. إلا أن تعديل الدستور عام 1980 أضاف مادة جديدة تحت رقم 210 تنص على أنه «للصحفيين الحق فى الحصول على الأنباء والمعلومات طبقا للأوضاع التى يحددها القانون، ولا سلطان عليهم فى عملهم لغير القانون». هذا الحق يصطدم بعقبات كثيرة. أهمها أن هناك قوانين تفرض قيودا على ممارسة الحق فى الحصول على المعلومات، وبعضها يشمل صياغات غير محددة بدقة، مما يسهل إساءة توظيفها، فى مقدمتها قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937، والتعديلات المختلفة التى طرأت عليه.
فمثلا تعاقب المادة 86 مكررا فى الفقرة الثالثة منها بالسجن مدة لا تزيد على خمس سنوات كل من روج بالقول أو بالكتابة أو بأية طريقة أخرى تحبيذ أفكار أية تنظيمات تشكل، ويكون غرضها الدعوة إلى الإضرار بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى، وبالطبع غير معروف على وجه الدقة ــ على الأقل على مستوى القانونى ــ المقصود بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى. ويعاقب القانون على إفشاء الأسرار، ويذهب القضاء المصرى إلى أن المعلومات لاتزال سرا حتى لو سبق إفشاؤها مادام لم ترفع عنها الدولة حجاب السرية. وينص القرار الجمهورى رقم 2915 لسنة 1964 الخاص بإنشاء الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء فى المادة العاشرة منه على أنه لا يجوز نشر بيانات أو معلومات إحصائية إلا من واقع إحصاءات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء. هذه بعض من القيود، وسيف مسلط على الرقاب. متى يصدر قانون لحرية تداول المعلومات، بحيث تصبح حقا، وليس منحة؟
(3)
من القضايا الدالة على غياب الوعى هو ما يجرى على صعيد الشارع. فمن ينظر إلى قيادة السيارات فى القاهرة يصل إلى نتيجة مفادها أن الشعب يغيب عنه الوعى بأهمية وجود شارع آمن. الشارع تهمين عليه الفوضى، ويسوده معدلات عنف مرتفعة، لفظيا وسلوكيا، مما يكشف أن الوعى العام «غائب» أو «مغيب» بأهمية تحقيق الآمن على مستوى الشارع. متى نستعيد وعى المواطن العادى بأهمية أن يكون هناك وطن آمن يستوعبه، ويستوعب غيره؟ القضية ليست هينة أو بسيطة، وتتعلق أكثر بأسس العلاقات بين الجماعة البشرية المكونة لهذا المجتمع. يبدو من استقراء الأوضاع أن قطاعا عريضا من المجتمع فقد الثقة فى وجود وطن، وبدأ يتصرف بحالة من حالات الأنانية العشوائية، التى تقود إلى الهاوية.
هناك ضرورة أساسية لاستعادة وعى المصريين بالوطن والتسامح، النظام والقانون، الترتيب، والتنظيم، خاصة فى ضوء ضعف القدرة الجمعية المصرية على الاحتفاظ بما ينهض بالأمة، فقط التفكير، والترويج، والحض على ما يشينها.