تغيرت برلين كثيرا، فلم تعد اللغة الألمانية تسمع فى كل جوانبها. تأتى إلى مقهى فى وسط المدينة، فيخاطبك نادل يتحدث الإنجليزية بلكنة إسبانية. تتحرك مستخدما وسائل النقل العام، فتسجل الأذن خليطا من التركية والعربية والروسية والبولندية وشيئا من الألمانية ثم دارجة المراهقين والشباب التى تنطق الألمانية بلكنة تركية وعربية وتوظف بعض الكلمات من اللغتين. ترغب فى حضور عرض مسرحى فى المدينة التى تميزت تاريخيا بمسرحها النقدى والذى استعصى على النظام البوليسى فى ألمانيا الشرقية السابقة القضاء عليه تماما، فتطالعك أسماء لعروض مسرحية غنائية وراقصة بالإنجليزية تكاد تتطابق مع ما تقدمه مسارح نيويورك ولندن وعلى الهوامش حفنة قليلة من العروض المسرحية بالألمانية. أين ذهب «مسرح اليسار» الذى كانت أعماله تنتشر بكثافة فى الجزء الغربى كما فى الشرقى من المدنية؟ هل هجرت أغلبية سكان برلين الألمانية مسرحا ولغة أم أن هيمنة المنتج الثقافى الأنجلوــ ساكسونى امتدت من السينما والموسيقى المعاصرة إلى خشبات المسارح والمقاهى؟ لا أدرى.
***
تغيرت برلين كثيرا، فلم يعد لمحدودى الدخل بها من مكان غير على الحواف. بات الأغنياء ومرتفعو الدخل وشباب الطبقة الوسطى يحتكرون أحياء بكاملها، ويطردون منها كبار السن ومتوسطى العمر من الفقراء والعائلات الفقيرة. وضعت النخبة الحكومية ومجموعات كبار موظفى الدولة أياديها على حى وسط المدينة وأخرجت منه محدودى الدخل من قدامى سكان الحى الذين كفلت لهم اشتراكية ألمانيا الشرقية وطرازها المعمارى قليل التكلفة العيش بجوار المعالم التاريخية والفنية الأهم فى برلين مثل بوابة براندنبورج الشاهدة على الحروب الأوروبية فى القرنين الثامن والتاسع عشر، ومبنى البرلمان الشاهد على تقلبات التاريخ الألمانى فى القرن العشرين بحقبته النازية المفزعة ودمار نهاية الحرب العالمية الثانية وتقسيم البلاد إلى جمهورية شرقية وأخرى غربية ثم الوحدة فى عقده الأخير. وكانت النخبة الحكومية ومجموعات كبار الموظفين قد انتقلت إلى برلين مع انتقال العاصمة إليها من بون بعد الوحدة، وشيدت لها مبانى جديدة وعمارات سكنية مرتفعة الكلفة ونتج عن ذلك ارتفاع أسعار العقارات إن امتلاكا أو استئجارا.
وطردت نخبة مجتمع الأعمال ومعها طوائف المهنيين أصحاب الدخول فوق المتوسطة كالأطباء والمهندسين ونجوم إعلاميى التليفزيون ونجوم ممثلى السينما والمسرح والرسامين والموسيقيين المعروفين، هؤلاء طرودا الفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى من أحياء الجزء الشرقى من برلين الذى صار العيش بها يحمل الكثير من مضامين الوجاهة الاجتماعية. تغيرت أحياء مثل برنسلاوبيرج وفريدريشسهاين، ولم يعد يرى بها محدودو الدخل واختفت المقاهى والمخابز التقليدية التى كانوا يرتادونها. وفى الجزء الغربى، هبط على أحياء كوريتزبيرج ونويكولن شباب المهنيين الذين قدموا برلين إما من مناطق ألمانية أخرى أو من بلدان أوروبية (هنا تأتى إسبانيا فى المقدمة) ويحصلون على متوسطات دخول جيدة وتمكنوا من إخراج العديد من العائلات الألمانية محدودة الدخل المنتمية تاريخيا إلى تلك الأحياء وكذلك من تهميش فقراء ذوى الأصول التركية والعربية. بل إن بين الفئات السكانية ذات الأصول التركية والعربية «صراعات سكنية» لا تتوقف على المتبقى فى تلك الأحياء من عمارات منخفضة الإيجارات الشهرية، وتنقلب بها الأمور اليوم رأسا على عقب بعد الزيادة الكبيرة فى أعداد العرب التى رتبها لجوء أكثر من مليون سورى إلى ألمانيا فى ٢٠١٥.
***
تغيرت برلين كثيرا، فلم تعد مكتباتها الشهيرة تشغل أماكنها المعتادة فى وسط المدينة وفى أحياء كتشارلوتنبورج وشينيبرج عرفت بتخصصها فى عرض وبيع الكتب. صمد بعض المكتبات طويلا فى مواجهة هجمة الشراء الإلكترونى للكتب، وتحايل على تراجع المبيعات بتحصيل مبالغ زهيدة من المرتادين نظير حضور القراءات الأدبية والشعرية والتى كان حضورها فى الماضى القريب دون مقابل مادى. صمدت مكتبات مثل مكتبة «كيبرت» فى وجه توغل وتغول «أمازون» ــ إحدى قلاع رأسمالية القرن الحادى والعشرين ــ ثم انهار الصمود والمقاومة وأغلقت الأبواب. كان لمكتبة «كيبرت» مكان رائع فى ميدان من ميادين تشارلوتنبورج، ميدان ارنست رويترز (وهو اسم عمدة شهير لبرلين فى النصف الثانى من القرن العشرين) . ذهبت إلى المكان راغبا فى زيارة المكتبة، فوجدت المكان قد احتله مقهى شاسع يقدم المشروبات والمأكولات بالأسماء الإنجليزية ولا يحترم تقليد إحضار نسخ من كبريات الصحف اليومية ووضعها بجوار المناضد لتمكين المرتادين من القراءة إن رغبوا، ذلك التقليد الذى كان متبعا فى أغلبية مقاهى برلين.
تغيرت برلين كثيرا، فلم تعد قطارات وحافلات النقل العام مواطن متحركة لقراء الصحف والمجلات والكتب. صار مشهد مطالعة الهواتف النقالة هو المشهد الغالب على مستخدمى القطارات والحافلات، متبوعا بمشاهد المتحدثين دون توقف وبلغات متنوعة. كان مشهد قطار وحافلة القراء من أكثر ما أبهرنى فى برلين، حين كانت حياتى اليومية تدور بها ومن حولها. وكانت قراءة الصحف والروايات وسيلة مضمونة للشعور بالانتماء إلى مجتمع الأغلبية دون حواجز عرقية، فالأغلبية كانت تقرأ وأنا أيضا. وفى الطريق إلى الجامعة كانت القراءة وسيلة مضمونة أيضا لاجتذاب أطراف الحديث مع ركاب آخرين كنت أستعلم منهم عن الروايات التى يطالعونها أو كانوا هم منى يستعلمون، وكنا نتبادل المعلومات عن أماكن وتواريخ القراءات الأدبية والشعرية وعن تقييم ممارسى النقد الأدبى للعروض المسرحية للروايات التى فى أيادينا.
***
اليوم، يذهلنى غياب القراءة بعيدا عن شاشات الهواتف، وشاشات العرض التليفزيونية الموجودة ببعض القطارات والحافلات والتى تقدم خليطا من الأخبار الخفيفة والإعلانات التجارية ومعها يتحول الركاب إما إلى ضحايا للأحداث الرديئة المسيطرة على السياسة العالمية أو إلى ضحايا للإغراق الرأسمالى للأسواق بسلع ومنتجات استهلاكية تتجدد باستمرار.
تغيرت برلين كثيرا، وصارت معرفتى بها هى استرجاع لذاكرة المكان.