الأول من مايو هو يوم الاحتفال بعيد العمال فى كثير من دول العالم. على الرغم من النشأة الاشتراكية العلمانية اللاسلطوية المميزة لأنشطة الاتحادات العمالية التى ناضلت سنوات من أجل انتزاع حقوق العمال فى ساعات وظروف عمل مناسبة، غير أن اختيار هذا اليوم تحديدا للاحتفال بعيد العمال قد ارتبط بحادث أليم وقع فى معقل الرأسمالية الغربية، وتحديدا فى ولاية شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية.
ففى الرابع من مايو من عام 1886 وقع حادث ميدان «هايماركت» فى ولاية شيكاغو الأمريكية الذى راح ضحيته ضابط من الشرطة وأصيب عدد من أفرادها، بعد انفجار قنبلة بدائية الصنع ألقيت من مجهول اختفى بين مئات العمال المتظاهرين من أجل وضع حد أقصى لساعات العمل لا يزيد على ثمانى ساعات يوميا. نتج عن إلقاء القنبلة تبادل لإطلاق النار، وسقط العشرات من الضحايا سواء فى الحادث أو فى المحاكمات والتظاهرات اللاحقة. فى النهاية كانت تلك المسيرة التى انطلقت سلمية ولم يكن من المفترض أن تراق فيها الدماء سببا فى أن ينعم العامل بحقه فى وقت للراحة والفراغ، تمييزا للإنسان عن الماكينات التى تعمل دون توقف، تعمل من أجل العمل فقط، ولا حق لها فى الاستمتاع بثمار هذا العمل وإشباع مختلف الحاجات البشرية.
أكتب اليوم عن العمال ولم يسبق لى الاحتكاك بعدد كبير منهم إلا فى مناسبات عارضة، بينما يعمل فى الشركات التابعة للشركة التى أترأس مجلس إدارتها حاليا زهاء الثلاثين ألف عامل. أدركت من معايشة مشاكلهم وطلباتهم ما لم أحط به عبر مطالعة الكتابات والإحصاءات، التى كثيرا ما وضعت العامل المصرى فى خانة الاتهام والكسل.
جولات تفقدية بين المصانع بعنابرها وأفرانها وغلاياتها ومختلف خطوط إنتاجها تشعر معها على الفور بقيمة وندرة العامل المصرى بعيدا عن الشعارات الزائفة والرياء الموسمى الذى تشتهر به تلك الأيام من السنة.
***
العامل المصرى لديه قدرة فائقة على التكيف مع أصعب الظروف، يتحمل فى سبيل ذلك الكثير من الأعباء التى لا تتضمنها فى الغالب بطاقات التوصيف الوظيفى الخاصة به، وشروط تعيينه أو التعاقد معه. إذا توقف الإنتاج لأسباب متعلقة بندرة الخامات أو ارتفاع أسعار الطاقة أو انخفاض أسعار المنتج النهائى فى الأسواق بما لا يتحقق معه شرط التشغيل الاقتصادى، تمكن هذا العامل من التحول إلى أعمال الصيانة، وإعداد مواقع العمل للتوسعات المخططة، وتجهيز قطع الخردة، وتنظيف مواقع الإنتاج والتخزين من المخلفات.. إلى غير ذلك من مهام تختلف باختلاف النشاط والظروف.
لم أمر بموقع واحد لإنتاج أى من منتجات الصناعات المعدنية، إلا واستوقفنى نفر من العمال لا للسؤال عن مطالب فئوية أو شخصية، ولكن لتحديث خطوط الإنتاج وتطوير الماكينات والمعدات وزيادة الطاقة الإنتاجية لمصانعهم التى يعملون بها ويشعرون بملكيتهم لها، وملكيتها لهم، فاستمرار حركة تلك التروس، ودوران تلك الماكينات واشتعال تلك الأفران قرين خفقان قلوبهم لا يمكنك التمييز بينها.
لا يفر العمال إذن من صعوبة العمل وظروف الإنتاج، ولا ينتظرون صرف رواتبهم بغير جهد، بل يدركون الآن أكثر من أى وقت مضى أهمية زيادة إنتاجيتهم، ومخاطر تراجعها التى تتصل بمعايشهم. لكن مدى الشكايات هو كلها ندرة الموارد التى تتطلبها مصانعهم، وتأخر بعض القرارات التى تنتظرها عجلة الإنتاج من أجل أن تمضى إلى الأمام.
قيود كثيرة تحول دون العمل بالطاقات القصوى للمصانع، تقادم الماكينات واحدة من تلك القيود، وعلى الرغم من تطور مهارات العمال فى التشغيل والصيانة لزيادة العمر الافتراضى لتلك الماكينات والآلات، تظل هناك احتياجات استثمارية وتمويلية لتحديثها وتطويرها بما يفوق قدرات عمال ومهندسى الشركات.
***
بالتأكيد تظل هناك أسباب أخرى لتراجع إنتاجية العامل المصرى فى المقارنة مع إنتاجية العامل فى كثير من الدول الأعلى ترتيبا وفقا لمؤشرات التنافسية التى تعرضنا إليها فى مقالات سابقة. من أبرز تلك الأسباب تراجع التدريب والتأهيل للعمالة المحلية، ولا يمكن إغفال تراكم بعض القيم السلبية عبر عصور من التواكل فى قطاعات مهمة مملوكة للدولة ملكية خاصة أو عامة، بسبب غياب عنصر المنافسة وعدم ربط الدخل بالإنتاج على أى مستوى من المستويات. لكن تنافسية العامل المصرى ترتفع فى السوق العالمية بفعل عوامل أخرى مرتبطة بالمناخ الاقتصادى العام. كان لتراجع قيمة العملة المحلية مقابل الدولار الأمريكى وسائر العملات الأخرى، والانخفاض النسبى فى مستويات المعيشة فى مصر دور فى تراجع مستويات الأجور، بما يميز الصناعات كثيفة العمالة فى مصر، ويضع سقفا للعائد المتوقع من التحول إلى الميكنة الكاملة، والتكنولوجيا التى تخفض من حجم العمالة المستخدمة بشكل درامى. لا شك فى ضرورة ملاحقة التطور التكنولوجى الذى يعظم من الإنتاجية والربحية لمختلف الأنشطة، لكن أكثر الدول تقدما واعتمادا على رأسمال دون سائر عناصر الإنتاج، تدرس العواقب المختلفة لانتشار التكنولوجيا الجديدة. هناك الكثير من الآلات التى لم يعد الإنسان مطلوبا لتشغيلها، لكنه مطلوب بكثافة أقل فى صناعتها وصيانتها ومراقبة تشغيلها. هذه الآلات ربما يكون عنصر الوفر الأكبر فيها هو أجور العاملين، لكن الارتفاع الكبير فى التكلفة الرأسمالية وبعض عناصر التشغيل الأخرى المرتبطة بالطاقة والوقود، قد تجعل التحول السريع إليها غير اقتصادى فى بعض الحالات، خاصة عندما تكون التكلفة النسبية للأجور فى تراجع مستمر، وبدائل الإنتاج الأخرى تحقق عائدا كبيرا يمكن مقارنته بالعائد المحقق من الماكينات تامة الأتمتة Fully Automated Machines.
هنا تتميز خلفية القرار الذى يتخذه الاقتصاديون عن قرارات سائر المختصين فى مجالات إدارة الأعمال، لأن حسبة الربح والخسارة تتضمن فى ضمائرهم وإدراكهم مفهوما أكثر شمولا، وأكثر قدرة على تحقيق التوازن والمواءمة بما يحقق عائدا إيجابيا أطول أمدا وأكثر استدامة.
***
العامل المصرى فى عيده السنوى لن يطلب المنحة فى صورة نقود اسمية يحصل عليها اليوم لتزيد الأسعار غدا بذات النسبة! لكنه يطلب ــ كما أتصور ــ رؤية شاملة وقرارا اقتصاديا يحقق الصالح العام للعامل وصاحب العمل على السواء. يطلب الاستثمار فى البشر وفى الآلات والمعدات بما يرفع تنافسية المنتج المصرى المادى والبشرى على السواء.
العامل المصرى فى عيده السنوى يشعر باهتمام القيادة السياسية، ويثمن القرار الحكيم بتشكيل مجلس أعلى للحوار المجتمعى، يعنى فى المقام الأول بمصلحة العمال وتحويل أحلامهم، التى يؤثرون بها مصانعهم على مصالحهم الشخصية، إلى قرارات نافذة وعملية وسريعة.
العامل المصرى لا يطلب تعويضا مستحقا عن ظروف عمل شاقة وبيئة عمل خطيرة فى كثير من الأحيان، لكن الدولة تدرك فى رؤيتها للمستقبل ضرورة الحد من مخاطر العمل، والحفاظ على البيئة، وتحقيق التنمية الشاملة المستدامة التى يعتبر البشر دعامتها الأساسية والمستفيد الأول من ثمارها. بقى أن تتحول رؤية واستراتيجية الدولة إلى تشريعات حاسمة، وأن تتحول التشريعات إلى قرارات تنفيذية وواقع معيش على الأرض، هذا ما ينبغى أن نعد به العمال. كل عام وعمال مصر وجنودها البواسل بخير وسلام.