ــ 1 ــ
قبل أسابيع قليلة سعدت بتسجيل حلقةٍ من البرنامج الإذاعى الجميل (كتاب أعجبنى) الذى يبث على أثير إذاعة سلطنة عمان مع الإذاعى اللامع والكاتب الموهوب سليمان المعمرى، كان موضوعها كتاب «حديث السندباد القديم» للمرحوم الدكتور حسين فوزى (1900ــ1987).. ورغم أننى كتبت أكثر من مرة عنه، وعن كتبه المدهشة؛ فإنه ما زال هناك مجال لحديثٍ آخر عنه، وعن إسهامه الأصيل فى الأدب العربى والثقافة العربية.
وبعيدا عن شهرة كتابه «سندباد مصرى» (1956)، وعن كتابه الأجمل والأمتع «حديث السندباد القديم» (1943)، أتوقف هذه المرة عند حلقة أخرى من سلسلة «سندبادياته» الفريدة، وهى «السندباد فى رحلة الحياة» الذى صدر للمرة الأولى عام 1968.
ــ 2 ــ
سيتيح لك حجم الكتاب قراءته فى جلستين اثنتين ممتعتين أو ثلاثة على الأكثر، فهو من السير التى تقرأها بغير تكلف ولا عناء، ولن يرهق ذهنك تخطيط صارم أو منهج منضبط أو إطار تحليلى للمادة المعروضة.
ترك حسين فوزى نفسه على سجيتها، على كامل راحتها، تتجول وتروح وتجىء وتستدعى ما تريد من فترات الطفولة والشباب وحتى الكهولة، السمة الملحوظة فى كل صفحات الكتاب (215 صفحة) هى الحماس الجارف، الصدق، الإخلاص فى عرض التجربة الحياتية والإنسانية، العلمية والفكرية والثقافية، التى تُبرز بلا ادعاء عظمة هذه الشخصية وثراء تكوينها وتعدد وتنوع المصادر والروافد التى شكلتها.
حسين فوزى بلا جدال واحد من صناع الثقافة المصرية فى القرن العشرين، «موسوعى» بكل ما تعنيه الكلمة، إسهاماته المتعددة تدعوك لاحترامه وتقديره وفى مجالاتٍ قد يبدو أن من الصعب الإسهام فيها كلها بذات الدرجة من التميز والاختلاف والجمال والخصوصية؛ كانت له أيادٍ بيضاء على الثقافة المصرية والعربية، وله أعمال ما زالت تشهد بجميل صُنع هذا الرجل، وأثره الممتد حتى الآن.
أثره فى الحياة الثقافية، والمجال الثقافى العام، امتد لآفاق غير محدودة من الإبداع والفكر والفن والأدب الرفيع، ويكفى أنه كان مؤسس إذاعة البرنامج الثانى بالإذاعة المصرية، والمعروف بـ(البرنامج الثقافي)، أحد مفاخر الإذاعة المصرية فى عهدها الذهبى فى القرن العشرين؛ لكن بالإضافة إلى ذلك ثمة مجموعة من الأوليات والإنجازات التى انفرد بها حسين فوزى، واختص بالجمع بينها فى مزيج فريد من التخصص العلمى الدقيق، والاطلاع الواسع والثقافة الموسوعية الرفيعة والذائقة الفنية الرهيفة.
ــ 3 ــ
فى رحلة الحياة تكون للإنسان آماله وأحلامه وطموحاته، وسرعان ما تتحول هذه الآمال والأحلام إلى «ذكريات». وفى «السندباد فى رحلة الحياة» يتقنع حسين فوزى مجددا بقناع «السندباد» الذى اتخذه رمزا ومجازا للإبحار الواقعى والخيالى معا، فى الزمان والمكان، والتاريخ والجغرافيا والرحلات والمعارف، وفى هذه المرة سيكون الإبحار فى رحلة حياة صاحبها ذاته منذ النشأة مرورا بالجامعة والسوربون، ومن حى السيدة زينب الشعبى العريق إلى التطواف والترحال فى جميع أرجاء العالم.
«سندباد فى رحلة الحياة» هى جُماع السيرة التى خاضها سندباد هذا العصر (الدكتور حسين فوزي) ومحورها ومركزها وجوهرها «الإنسان»؛ الإنسان فى تكوينه ونشأته، فى تربيته والعوامل التى تتحكم فيه وتوجهه، يتساءل الدكتور حسين فوزى: هل كانت مصادفة من الصدف حين كنتُ طالبا فى المدارس وكنت أغرق نفسى فيما كان يسمى النشاط الحر وكان وقتها حرا غير ملزم؟! فانضممت لجماعة الرحلات، وكانت الرحلات والجغرافيا شيئا واحدا.. وفى الرابعة عشرة انضممت لجمعية الرسم (بالفحم والألوان المائية) والتصوير الفوتوغرافى ثم التمثيل، ولم تكن هناك للأسف جمعية للموسيقى؟!
يكشف «السندباد» عن تلك النشأة الفريدة التى أتاحت لنا هذه الشخصية العجيبة، فالرحلات آنذاك كانت نشاطا مدرسيا أصيلا وحقيقيا رحلات تدور حول القاهرة ومعالمها، جبل المقطم، المساجد والكنائس الأثرية، أهرام سقارة، آثار الأقصر، وكان أساتذة ذلك الزمان يصطحبون طلابهم وتلاميذهم فى تلك الرحلات ويوصونهم بتسجيل كل تلك الرحلات والمشاهدات كتابة.
من هنا نما حب وشغف حسين فوزى بالرحلة وتسجيلها التى صارت مفتاح شخصيته وحياته وسيرته كلها، ولكنه يوضح أن المسألة بالنسبة له لم تكن مسألة رحلات فقط؛ إنها فى الأول والأخير «مسألة فكر»؛ يقول: «فأنا لم أقم برحلة من الرحلات إلا مدفوعا دفعا، فلا تعتقد أننى رحالة بالسليقة، بل وإنما كل رحلة قمت بها كنت فيها مدفوعا بواجب معين».
ــ 4 ــ
هذا الواجب ببساطة هو التوق المحض إلى المعرفة والرغبة اللا نهائية فى الاستزادة منها، ذلك أن موضوع درسه الوحيد ودراسته الحقيقية وشغفه المتنامى هو «الإنسان» بكل مظاهره؛ فى التاريخ والجغرافيا والرحلات، فى الأدب والفنون والحضارة... إلخ. ورحلات حسين فوزى فى الزمان أو المكان هى فى النهاية رحلة واحدة ممتدة حول الإنسان (الذى هو حسين فوزى فى المقام الأول) من الطب للعلوم للموسيقى للفنون جميعا، وهو فيها جميعها يدور حول ذاته.
ولعل هذا هو السبب الذى حدا بحسين فوزى أن يجعل قناع «السندباد» مجازا لهذه الرحلة الطويلة الممتدة، «سندباد» هو اسم ينشر بسحره موكبا من ذكريات الطفولة والمراهقة فى حياة حسين فوزى الذى يقول عن هذا الاستلهام والاستيحاء:
«كان دليلى وقائدى ومرشدى فى رحلتى الخيالية (ورحلاتى الواقعية) ذلك الرحالة العظيم الذى أخرجته للناس مخيلة كاتب عربى مجهول ــ ربما كان مصريا ــ يعزى إليه جزء أو كل من كتاب «ألف ليلة وليلة» أوسع وأشهر مؤلفات الأدب العربى صيتا فى الخافقين. والسندباد هو معلمى البحرى الأول، فأنا إذ أرجع برحلتى الخيالية فى القرون الوسطى (يقصد كتابه «حديث السندباد القديم»)، أعود بها أيضا إلى طفولتى حينما عرفت البحر أول ما عرفت فى قصة «السندباد البحرى»، وكتاب «عجائب الهند» لبزرك بن شهريار الناخداه الرامهرمزى..».
وما أروع السندباد المُلهِم والسندباد المُستلهِم معا!