كتبت عن جوائز الدولة على مدى ربع قرن أكثر من خمسين مقالا صحفيا ولا يزال حالها يدهشنى، وأحدث أسباب الدهشة ما أخبرنى به مصدر موثوق بشأن قيام لجنة فرز الترشيحات باستبعاد اسم الناقد الكبير الدكتور حسين حمودة من لائحة المرشحين لجائزة الدولة التقديرية التى تم التصويت عليها أمس.
وبعيدا عن نتائج التصويت التى أعلنت بعد كتابة هذا المقال، والتى ستفتح الكثير من الأقواس حول جدارة بعض الفائزين لأسباب تتعلق بحسن التربيط وليس جودة الإنتاج، فإن استبعاد حسين حمودة يثير الكثير من التساؤلات حول المعايير التى تعمل بها لجان فرز الترشيحات.
والأصل أن هذه اللجان استرشادية وليست لها سلطة فوق السلطة الممنوحة للمجلس باسم القانون، وبالتالى فإن قيامها باستبعاد أى من المرشحين هو أمر غير قانونى ولذلك لابد من الطعن على قراراتها.
فى السابق كانت هذه اللجان تقترح الأسماء التى اختارتها على المجلس الذى يحتفظ بحقه القانونى فى التصويت على من يشاء، بغض النظر عمن تم استبعادهم أو اختيارهم.
يحتفظ أرشيف المجلس بحالات كثيرة لأسماء فازت بعد استبعادها لعل أشهرها الناقد السينمائى الراحل سمير فريد وهو من هو فى مجاله وكثيرا ما لجأ الدكتور جابر عصفور رحمه الله للائحة وانتهت الأمور بعودة الاسم المستبعد وفاز سمير فريد بالفعل وعرف الجميع أن استبعاده جاء لأسباب شخصية حيث كانت لبعض الأعضاء خلافات مع الناقد الراحل وبالتالى كان استبعاد اسمه لأسباب شخصية وغير موضوعية.
الأمر المؤكد أن استبعاد حسين حمودة تم لأسباب شخصية حيث لا يوجد سبب موضوعى واحد لاستبعاده، فإنتاجه النقدى رفيع المستوى ومشهود له بالموضوعية والنزاهة وحسن الخلق إلى جانب أنه إنتاج متمهل، وزاهد ومنشغل بالقيمة أكثر من أى شىء آخر.
من يعرف الحياة الثقافية جيدا يدرك أن المكانة التى نالها حمودة ودفعت مؤسسة كبيرة مثل مكتبة الإسكندرية لترشيحه هى مكانة جاءت بعد رحلة كفاح امتدت لأكثر من أربعين عاما من العمل الدءوب والشاق سعيا لكتابة نقدية تنتصر للمتعة دون أن تغفل عن جدية المنهج.
ولا أظن أن هناك مجلة مصرية أو عربية رفيعة القيمة لم تسعَ لأن يكتب فيها حمودة ومن يعود لكشافات مجلات (خطوة، فصول، ابن عروس، الثقافة الجديدة، الكتابة الأخرى، المستقبل العربى، نون، الكرمل) وغيرها سيجد اسمه فى طليعة الأسماء التى كانت تشير إلى ميلاد جيل نقدى متميز متمرد على أساتذة كبار من جيلى الستينيات والسبعينيات من أمثال عبدالمحسن طه بدر وعبدالمنعم تليمة وعز الدين إسماعيل ونبيلة إبراهيم وصلاح فضل وسيد البحراوى ونصر أبو زيد وجابر عصفور سعيا لإنتاج خطاب نقدى بديل.
اليوم يقف حمودة فى صدارة جيل له إنتاجه المتميز وحضوره الفاعل فى المجال العام وهذا الجيل يضم إلى جوار اسمه، أسماء أخرى مبدعة منها فاطمة قنديل ومحمد بدوى وأحمد مجاهد وخيرى دومة وشيرين أبو النجا وآخرين قدموا إنتاجا بحثيا متميزا راكم فوق إنتاج أساتذتهم وسعى للإضافة إليه.
أجمل ما فى هؤلاء أن انخراط بعضهم فى الشأن العام لم يكن أبدا على حساب مسئولياتهم الجامعية، إذ اعتنوا مخلصين بالعمل مع طلاب جدد لتجديد تيارات النقد فى مصر وتحريرها من الرطان الأكاديمى دون التضحية بمعياره، وذلك بهدف تهيئة الأرض لنقد يقوم على المتعة، ويلعب دوره فى إضاءة النصوص وتحليلها وربطها بسياقات معرفية أخرى.
يرأس حمودة اليوم تحرير مجلتين هامتين، الأولى هى مجلة فصول التى أسسها أستاذه عز الدين إسماعيل وظل حمودة محررا فيها لنحو 35 عاما وإلى جوارها يرأس تحرير دورية نجيب محفوظ التى تقوم على جهده الفردى الأصيل، فهى لا تملك أكثر من اسمها اللامع، وتقاوم بلا مقر أو هيئة تحرير ثابتة أو ميزانية وإنما تصدر حسب التساهيل وبحماس شخصى من حسين حمودة المخلص دائما وأبدا لنجيب محفوظ شيخه الذى اختاره رفيقا مخلصا.
أشهد أن حمودة أحد أكثر تلامذة محفوظ إخلاصا ومعرفة بإنتاجه إذ يكاد يحفظ رواياته عن ظهر قلب ولا يكف أبدا عن تأملها وتدريسها ولديه حولها كتاب هام بعنوان (فى غياب الحديقة) يقوم على وعى نقدى استثنائى حول الخطاب الأدبى والفلسفى فى روايات عميد الرواية العربية.
ولكل هذه الأسباب يبقى استبعاد حسين حمودة لغزا فى «غياب الحقيقة» وستبقى جوائز الدولة سيئة السمعة، فالترشيحات لا تستند لأى معايير واضحة والتصويت يقوم على تربيطات وصفقات معروفة يتورط فيها بعض الأعضاء بمنطق «شيلنى واشيلك».