تكثر المقالات والتحليلات العالمية حول الأوضاع الاقتصادية فى مصر، كثير منها مقلق، ويثير بتنبؤاته المتشائمة مخاوف بشأن المستقبل، وفى الوقت نفسه تبدو التصريحات الرسمية مطمئنة، وتحمل اعتقادا جازما بإمكانية تجاوز الأزمة، وتلخص عادة فى الأزمة الدولارية بين المتوفر والمطلوب، كيف نزيد من المتوفر حتى نسد الاحتياجات المطلوبة من استيراد ضرورى، وسداد وخدمة الدين الخارجى؟
أثار الدكتور زياد بهاء الدين فى مقاله المنشور الأسبوع الماضى فى الفاينانشيال تايمز عددا من النقاط التى تمثل وجهة نظر خبراء أجانب ومحليين حول الوضع الاقتصادى، خاصة فى الشهور الماضية التى أعقبت توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولى على القرض الأخير، والذى صاحبه عدد من الشروط، لم تلبها الحكومة المصرية على النحو المطلوب من وجهة نظرهم. ورغم ترحيبه بالقرارات الأخيرة لإزالة العقبات أمام الاستثمار إلا أنه رأى أن الأمر يتطلب إصلاحا شاملا، تعلن عنه الحكومة، وتمضى على طريق تحقيقه، ولم يعد مقنعا ــ حسب المقال ــ القول بأن الأزمة الراهنة تعود إلى تداعيات وباء كورونا والحرب الروسية فى أوكرانيا، بل صار من الضرورى النظر فى الأسباب الداخلية أيضا.
وإن كنت لست خبيرا اقتصاديا، لكنى أظن مما قرأت وتابعت أن هناك عدة إشكاليات مزمنة فى بنية الاقتصاد المصرى، لم نستطع تجاوزها طيلة عقود. أولها أن لدينا أكثر من اقتصاد، جزء منه نعرفه، وربما عن ذلك يتحدث الخبراء، وجزء آخر، وقد يكون الأكبر، لا نعرفه، يمثل اقتصادا موازيا، وهو ما يجعل من الصعب وضع خطط اقتصادية للمستقبل. وهناك انطباع بأن السوق الموازية، ساحة التفاعل للاقتصاد الموازى، يسودها معاملات ومضاربات واسعة، جانب منها على العملة الأجنبية، التى خسر الدولار نحو سبعة جنيهات مقابل الجنيه منذ أيام، بعد أن زادت الإشارات بأن الحكومة لن تخفض قيمة الجنيه فى الفترة المقبلة، بل إن المهندس مصطفى مدبولى رئيس الوزراء ذكر فى أحد تصريحاته أن الجنيه مُقوم بأقل من قيمته الحقيقية، وأن التوسع فى الاستثمار يساعد الجنيه على استرداد عافيته. ويمثل الاقتصاد الموازى أو غير الرسمى أيا كانت تسميته مساحة عريضة من الأنشطة الاقتصادية، التى تجاهد الحكومة فى رصدها، وتقنينها، وضمها إلى الاقتصاد الرسمى، ولم تفلح فى ذلك بالكلية. الأمر الثانى أن مساحة التوسع الاقتصادى محدودة خاصة فيما يتصل بتوفير العملة الأجنبية، حيث تشمل المصادر الأساسية: السياحة، ودخل قناة السويس، وتحويلات المصريين فى الخارج وهى مصادر شبه ثابتة، تعانى من التقلبات صعودا وهبوطا، فى حين ينبغى العمل على اتساع قدرات التصدير للخارج، التى رغم زيادتها فى عام 2021، تأثرت كثيرا بإجراءات تقييد الاستيراد منذ عام 2022 لأنها تعتمد على المواد الأولية من الخارج. ومن هنا فإن نجاح خبرات التصدير استندت إلى تجارب، أشار إليها دكتور زياد بهاء الدين فى مقاله، تشمل تصدير منتجات زراعية أو صناعات تعتمد فى الأساس على مواد محلية، ولا تنافس الحكومة، وهى ظاهرة يتعين العمل عليها، خاصة التوسع فى إنتاج وتصدير منتجات لا تعتمد على أى مدخلات تستورد من الخارج، وبذلك يجرى زيادة الحصيلة المتوفرة من الدولار. وثالثا، يبدو أن التشخيص، والتحليل، ورصد المشكلات الاقتصادية أكثر بكثير من طرح حلول ابتكارية للنهوض بالنشاط الاقتصادى، وطرح بدائل لسياسات قائمة عن دراسة ووعى. أكثر ما يلفت الانتباه فى الحديث عن الوضع الاقتصادى فى مصر وجود آراء متشائمة تصدر عن جهات دولية، وتنفخ فيها منابر معادية للدولة فى الخارج، مع وجود أحاديث رسمية عامة فضفاضة، الكثير منها يعبر عن أمنيات، والقليل منها معلومات، وبين هذا وذاك، لا نجد سياسات اقتصادية بديلة، تطرحها أحزاب ومؤسسات، أو خبراء اقتصاديون، لاسيما فى ضوء غلبة النظرة إلى الأزمة الاقتصادية بوصفها أزمة مالية، تحتاج إلى إدارة مالية، فى حين أنها تتصل فى الأساس بالاقتصاد ذاته.