لكنهم يتجملون - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 10:55 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لكنهم يتجملون

نشر فى : الجمعة 30 يونيو 2017 - 9:35 م | آخر تحديث : الجمعة 30 يونيو 2017 - 9:35 م

تعليقات كثيرة تتردَّد مِن العام إلى العام، حين يتسمَّر أغلبُ الناس أمام الشاشات، يُثقِلهم الطعامُ وتجذبهم المادة المُكثَّفة سواء كانت دراما أو إعلانا. تعليقاتٌ تدور حول جودة العمل أحيانًا وتتطرق إلى ما يخصّ مُقدميه فى أحيان أخرى؛ الحياة الشخصية للفنان فلان، وإطلالة الفنانة فلانة فى هذا المسلسل التلفزيونى وذاك، والوجه المَشدود الخالى مِن التجاعيد، ومدى نجاح الأطباء فى مَحو آثار الزمن وإيقاف تهديداته المخيفة. ليس بى اهتمامٌ كبيرٌ بمُتابعة الوجوه ومُلاحظة التغيرات التى اعترتها ومقارنتها بما فات وولى، لكن التعليقات أيقظت فى نفسى حديثًا عن أمور التَجَمُّل وفنونه، خاصة والسياق العام يزخر بها.
***
لا يقتصر الأمر بالطبع على ما يتعلَّق بالمساحيقِ وبعمليات الشدِّ والنفخِ والحَقْن؛ تلك التى تستهدف تجميل الطلَّة وتحسين المظهر وإعادة النضارة، أو على الأقل الاحتفاظ بشكل مقبول لا يستجلب التحسُّر والشفقة من المشاهدين. لا يقتصر الأمر على شفاه مُكتنِزة حدَّ الانفجار وأعين مفتوحة عُنوة ووجناتٍ مُمتلئة مُكورة وحواجبٍ عالية مَرسومة، لكنه قد يتجاوز المرئيَّ إلى المعنويّ ويتعدّى الملموسَ والمحسوسَ إلى المخفى، وقد يتبلور فى المسلك والفعل بدلا مِن مَلامح الوجه.
***
لا ينسى أحد قصة إحسان عبدالقدوس «أنا لا أكذب ولكنى أتجمل» التى تحولت إلى فيلم، بطله المُتفرِّد العظيم أحمد زكى أو إبراهيم الذى أحبَّ خيرية وادعى أنه سليل عائلة ذات مركز ومكانة، له حسب ونسب وموقع مُشرِّف فى المجتمع، ثم لم يلبث أن انكشف ومع ذلك أصرَّ أنه لم يرتكب خطأ ولم يفعل إلا محاولة التجمُّل أمام حبيبته وعائلتها الوجيهة.
***
مِن الناس مَن يرسمون لأنفسهم صورًا مُغايرة للحقيقة ويصدّرونها للآخرين. يتجملون بانتحال صفاتٍ ليست لهم وأخلاقٍ لا تشبه أخلاقهم، لكن الأقنعة تسقط بعد زمن يقصر أو يطول، وتسقط معها الجاذبية المُصطنَعة تاركة فى مكانها ندوبًا واضحة. رغم هذا لا يكُفُّ الناسُ عن بذل الجهود للتجمُّل؛ أمام الأحباء والأصدقاء وكذلك أمام الأعداء، لا يميل أغلبنا إلى تغيير الصورة الحقيقية، بل إلى ادعاء تغييرها.
***
يتجمّل الأشخاص فرادى كُلٌّ فى مُحيطه، وتتجمل الأُسر وسط الأقرباء والجيران. كذلك تتجمّل المؤسسات الكبرى والشركات العابرة للحدود والقارات، وتتجمّل أيضًا الأنظمة والحكومات. الأساليب متنوعة، والغرض بَيِّن مُحَدَّد؛ أن يبدو المتجملون فى صورة مثالية تلقى الترحيب، وأن يتمتعوا بطيفٍ واسع مِن المكاسب والميزات تبدأ بجَنى الإعجاب الشخصى وتصل إلى حيازة ثقة الآخرين ومن ثمّ استغلالها على أتم ما يكون.
منذ أسابيع قليلة تداولت وسائلُ التواصلِ الاجتماعية وبعضُ المواقع الإخبارية والصحفُ الورقية، خبرًا عن سيدة أُجهِضَ جنينُها على أيدى قوات الأمن التى اقتحمت دارها تبحث عن شخص مطلوب. كثيرون وكثيرات تعرضوا إلى التعذيب قبل هذه السيدة وسيحدث المِثل مع عشرات وربما مئات وآلاف آخرين خلال الفترة القادمة مع استمرار تدهور الأحوالِ وإحكامِ الخناق حول الرقاب. الشراسةُ الأمنيةُ ظاهرةٌ للعيان والخطوطُ الحمراءُ تبخَّرت مع استشراء الفساد والقمع، لكنّ النظام لا يحب هذه الصورة ويفضل أن يتجمّلَ وأن يرى فى المرآة صورةً نقيضة تُكَلِّلُها مَحاسنُه المُفترَضة، وأن يضع هذه الصورة أمام أعين الناس.
***
بعد أيام مِن خبر الاعتداء العنيف على السيدة وإجهاضها، تداولت الصحف خبرين آخرين: أحدهما عن زيارة وفدٍ مِن قطاع حقوق الإنسان فى وزارة الداخلية لبعض أقسام الشرطة ومراكزها، وذكرت الصحيفة أن هدف الزيارة هو التأكُّد مِن مُراعاة حقوق المُحتجَزين ومِن توافّر الشروط الصِحيّة فى أماكن احتجازهم. كان الخبر الثانى عن قيام قسم حقوق الإنسان فى مديرية أمن القاهرة بتوزيع هدايا رمزية على المواطنين وعددٍ من السياح فى الشوارع، وذكرت الصحيفة أن هذه الهدايا هى تأكيد مِن المديرية على التزامها بمعايير حقوق الإنسان، كما ذكرت أن المواطنين عبروا عن سعادتهم وشعورهم بالترابُط مع أجهزة الأمن، وقد ظهرت الهدايا فى الصورة المصاحبة للخبر؛ طواقٍ ورقية زرقاء اللون أظنها تحمل شعار الشرطة.
***
جاء الخبران السابقان فى الأسبوع الماضى، بتاريخ السابع والعشرين مِن يونيو، وجدير بالذكر والمعرفة والتنبية أن يوم السادس والعشرين مِن الشهرِ نفسه هو اليوم العالمى لمُساندة ضحايا التعذيب. قررت الداخلية فى هذه المناسبة أن تضع المساحيق والرتوش وأن تلجأ للتجمُّل بالوسائل التى تعرفها. لا حساب ولا عقاب مكافئا لجُرم ارتكبه فرد مِن أفرادها، إنما هدايا شكلية وزيارات شكلية وصور فى الصحف وابتسامات عريضة لا تعكس الحال ولا تشى بما صار إليه المَقام.
***
فى السياق ذاته، وقبل يوم واحد مِن الاحتفال العالمى لمُساندة ضحايا التعذيب، أعلنت الحكومة اليمنية تشكيل لجنة خاصة، تبحث ما أوردته بعض المُنظّمات الحقوقية الدولية حول وجود سجون سرية، اختفى فيها ما يقرب من ألفى شخص وتعرضوا للتعذيب، وقيل إن هذه السجون تديرها دولة خليجية وإنها تُدرّب القوات اليمنية على إدارتها. لا أعرف إن كانت هذه اللجنة على غِرار لجاننا التى تتشكَّل لتجميل الصورة وتزيينها أم أنها ستقوم بعملها الحقيقيّ، لكنى أظن أن الأصلَ واحدٌ وأن الحُكمَ المُستبِد لا يُنتِج سوى فُقاعاتٍ وأضواءٍ وصخبٍ، وأن الزيف الذى يُغطّى صفحةَ وجهَه قد يُعمى الناس عن رؤية القبح لبرهة، لكنه لا يدوم أبدًا.
***
ربما تنجح مُحاولات التجمُّل وقتيًا، لكن فشلها يبدو حتمًا على المدى الطويل؛ إذ ما مِن نظام مُستبِد إلا وشاخ بمرور الوقت وحفرت تجاعيد البؤسِ والضيمِ جلده وفتّت أعضاءه، فإن نكص الناس عن مواجهته توًّا فالزمن بتخاذلهم وبتجبُّره كفيلٌ.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات