أذكر والحديثُ اليوم عن كلمةِ سَاح، أغنيةً معروفةً لمُطربةٍ تحملُ صوتًا من أجملِ الأصوات؛ تقول: الثلج ساح في كأس الليمون. أحببت الصَّوتَ القويَّ السَّلس؛ لكني تحفَّظت مُؤخرًا تجاه أخبارٍ إن صحَّت؛ فإنما تعكس حلقةً من سِلسِلة أحداثٍ لا تسرّ، ولن تنتهي أغلبَ الظنّ عما قريب.
• • •
يأتي الفعلُ ساحَ في مَعاجم اللغة العربية بمعنى سالَ وجَرى، وفي معنى آخر بمعنى طافَ وجال. الفاعلُ في كلتي الحالين سائح، والمصدر سيحان وسياحة، أما المفعولُ به فمَسيح فيه. يُقال سَاحَ لكل مُجمَّد، وكذلك ساح المَعدن وذابَ، وإذا قيل ساح في الأرض؛ فالمعنى أنه تنقل بين أرجاءها وتطلَّع في معالمِها، والحقُّ أننا نملِك ما يستحقُّ ولا شكَّ أن يفدَ السائحون من شتّى بلدان العالم ليروه؛ لكنا نملك أيضًا ما لا يُرى، فطغيان قبح المعمار والتصميم، إضافة إلى استباحة المساحاتِ المفتوحة وإغلاقها؛ باتا من المؤرقاتِ البصريَّة التي تُوجِع العينَ وتشقُّ على النفس.
• • •
في تغيرات مُتسارعةٍ ومُخيفة، تسيح ثلوجُ القُطبِ الشماليّ وتتحوَّل إلى فائضِ مياه، تتآكل بفعلِه السواحلُ وتنقرض، والسبب ليس إلا ممارسات البشر المعادية للبيئة. تواردت التحذيراتُ منذ فترة، لكن كثيرين لم يصدقوا. تناولوا الأمرَ باستخفافٍ وجعلوا منه مَزحة؛ فإذا به يتحوَّل إلى حقيقة، وإذا بالمناخ كله يتبدَّل وإذا بالطبيعةِ تهدينا ظواهرَ في غير أوانِها وطقسًا عجيبًا.
• • •
غنّى عبد الحليم "سوَّاح وداير في البلاد" منتصف الستينيات تقريبًا. الأغنية من كلمات محمد حمزة وألحان العبقريّ بليغ حمدي، والسوَّاح إلى جانب كونها منطقة تقع في الأميرية، هي صيغة مبالغة تفيد كثرة السَّفر والترحال، أما الأسباب فمتعددة.
• • •
ما إن يتعارك أطفال خلال اللعِب فيتلقى أحدهم ضربًا يُوجعه، ويمضي إلى أمه شاكيًا؛ حتى تتولى زمام الأمور إلا إن كانت من الرزانةِ بمكان، فإن لم تكُن؛ لجأت كالعادة إلى حفزِ الوالد بقولة: ابنك سايح في دمه؛ تريد التدليلَ على شدةِ الإصابة وفداحةِ الموقف؛ حتى وإن كان المرئيُّ بالعين المُجردة لا يتجاوز نقطةً من الدماء، والهدفُ المُحدَّد شحذُ الهِمَّة للدفاع عن الولد، وذاك في عرفِها أمر يستدعي المُبالغة.
• • •
نستخدم كلمةَ سَيَّح بتشديد الياء في أغراضٍ تختلفُ عما سبق، فقد يكشفُ الواحد عن أمرٍ لا يعرفه الآخرون وإن لم يكُن سرًا؛ فيجعل من صاحبه مضغةً في الأفواه، ويُقال حينئذ أنه "سيَّح" له، والقصد أنه أجرى الكلامَ على الألسنة وأساله بين الناس، فرآه من لم يَر وعرفَ به، والتعبير شائع، غنيٌّ بالمجاز، مُنجز في أداءِ الغَرض، يستحقُّ الإشادةَ بمن ابتكره وروَّجه.
• • •
في أيامٍ مَضَت كان صنَّاع مُستحضرات التجميل يُروجون للدهانات والمُركَّبات التي تجعل الشعر سايحًا نائحًا، مُضاهيًا للنموذج المثال الذي ينبغي على كل امرأة أن تطمح إليه. "السايح" تخفيفٌ لسائح والمعنى مفهوم؛ فخصلاتٌ ناعمةٌ مُسترسلة هفهافة، أما نايح أو نائح فربما تعود إلى المعنى المذكور في بعض القواميس: ناح أي مال واستراح. تبدَّلت اليوم الحالُ، وصار التركيز على جمال الشعر المُجعَّد المَتروك لطبيعته؛ لكن هذه الطبيعةَ تحتاج بالطبع لما يُحافظ عليها ويثبتها ويحميها؛ ولهذا مُنتجات أخرى تسوّق لها الشركاتُ وتراكِم المكاسبَ والأرباح.
• • •
أغلبُ الظنّ أن الفنان المُمتع عبد الفتاح القُصري لم يتوقَّع أن تتحولَ عبارتُه "يا صفايح الزبدة السايحة يا براميل القشطة النايحة" إلى أيقونةٍ خالدة، تجري على الألسنةِ بعد مرور عقود على إطلاقِها في فيلم "لو كنت غني" الذي عُرضَ في أوائل الأربعينيات، وأخرجه هنري بركات. جاءت العبارةُ في سياق المُغازلةِ خفيفةِ الروح، والحقُّ أن للقُصريّ مذاقًا خاصًا لا ينافسه فيه فنان آخر.
• • •
قبل أعوام؛ اعتادت نسبةٌ لا بأس بها من السيداتِ على تسييح الزبد لتحويلها إلى سمن بلدي. يُضِفن الملحَ إلى قوالب الزبد على النار الهادئة ويقلبنها وقتًا محددًا ثم يعبأنها. تدهورت الحالُ ولم تعد الأيام الخوال سوى ذكرى، تلاشت مقدرةُ الغالبيةُ العظمى على شراء الزبد، والسَّمن كذلك، واستعيض عنهما بالزيوتِ المهدرجة الرخيصة والمُصنَّعات الأخرى التي تحملُ خطورة جمّة على الصحّة، فتسد الشرايين وتُرهقُ القلب، ولم يكُن مِن بديل.
من قديم كانت الثلاجاتُ تحتاج إلى نزع القابسِ وفصلِ الكهرباء عنها بين الحين والآخر، كي تسيحَ الثلوجُ المُتكونة داخلها. أذكر عمليةَ التجفيفِ والمياه التي تسيلُ إلى الخارج وتحتاج إلى جهدٍ مُضاف للتخلُّص منها. تقدَّمت الصناعةُ وزالت الحاجة للعملِ الشَّاق، وإن ظلَّت صورةُ الثلاجةِ القديمةِ ذات البابِ الواحد والمَقبض المُستطيل عالقةً بالذاكرةِ، مُحتفظة لنفسها بحنينٍ خاص.
• • •
ربما يَسيح الواحد في عَرقِه؛ عن خجلٍ بعضَ المرَّات، وعن ارتفاع درجاتِ الحرارةِ في مرات أخرى، أو عن حمى تصيبُه وتورثه الرجفة والبرودة. السببان الأخيران عاديان مُنتشران، أما الأول فمن النادر أن يصادفه المرءُ اليوم؛ فلم يعد مِن شيءٍ يدعو إلى الخجل، ولم يعد الخجلُ نفسُه شعورًا حاضرًا أو قريبًا.