الاستبداد هو من يفكك المجتمعات، ويصنع الأحقاد بين الجماعات المكونة لها، ويجعل من الصعب التئامها فى كيان واحد. درس مهم يجب ألا يتوه وسط زحمة الأحداث حتى لا نجد أنفسنا فى نهاية المطاف نمجد الشمولية والقهر، ونمنحها الحكمة وبعد النظر، والتصور الاستراتيجى بعيد المدى.
لم يكن الاحتلال الأمريكى للعراق، وما تبعه من حل الجيش العراقى، وصناعة دستور يعزز الطائفية، وتحكم حكومات تخدم الشيعة على ما عداها هو السبب المباشر فى تمزيق العراق، وتفكيك أواصر وحدته، ولكن الذى تسبب مباشرة فى تمزيق العراق هو حكم البعث، وما شهده من قهر، واستبداد، وفشل فى إدارة التعددية.
الصومال والسودان تفككت لنفس الأسباب، وليست سوريا وليبيا بعيدة عن ذلك. نكبة العالم العربى أن نماذج إدارة التعددية فى مجتمعاته محدودة، وغير مكتملة، وهو ما يجعل بعض مكوناته محظوظة، وأخرى محرومة تعيش حالة غليان، وتعتريها المظلومية، ويتوارث أبناؤها ذاكرة القهر.
داعش وأخوتها هم نتاج دولة قومية استبدادية جثمت على صدر العالم العربى. إفراز طبيعى لغياب الإدارة الرشيدة للتعددية فى ظل حكم ديمقراطى. من الخطأ التأكيد فقط على المؤامرة الخارجية لأن فى الأمر خلل داخلى متوارث، وبعيد الجذور، ومتكلس يجعل التغيير بالدم وليس بالحوار فى إطار مؤسسات دولة تمثل كل مواطنيها. بالطبع العامل الخارجى حاضر، ولكن الأوضاع الداخلية لها المقدمة.
هذا هو الدرس الذى يجب أن نتوقف أمامه، ونتأمل معانيه.
ولكن هناك من المحللين، ولا أقول العوام، يظهرون بخطابات تتحدث عن الدولة القومية التى أدى تفككها إلى ظهور الإرهاب، والتمزق الجغرافى، ويمجدون بشكل مستبطن دولة الاستبداد، ويربطون ما حدث للدولة القومية من انكسار من دعاوى وحراك الديمقراطية، وكأن شعوب المنطقة ــ التى تحيط بها المؤامرة من كل جانب ــ لا تستحق الديمقراطية، أو على أحسن تقدير غير جاهزة لها.
هذا الخطاب لا يستوعب دروس التاريخ، ولا يبحث فى الأسباب الحقيقية لتفكك المجتمعات، وهو الاستبداد. والمناعة الحقيقية ضد تمزق وانحلال المجتمعات هى الديمقراطية، والإدارة الرشيدة للتعددية، وإشراك جميع المواطنين فى الشأن العام، وتعزيز المساواة، والمشاركة، والعدالة.
لم نر مجتمعات ديمقراطية تتمزق، ولكن العكس تلتئم معا فى أطر وحدوية أوسع. وتظل إدارة التعددية الجيدة أحد عناصر القوة الناعمة فى المجتمعات مهما بلغ اتساعها، خذ الهند نموذجا على ذلك فهى تضم أعراقا ولغات وأديان متعددة، ورغم ذلك تتسم الإدارة السياسية باحترام التعددية. فى حين أن هناك دولا أخرى أقامت وحدتها بالقهر، تمزقت بعد أن اهتزت دعائم الاستبداد بها مثل الاتحاد اليوغسلافى.
الإشكالية ليست فى التنوع، ولكن فى طبيعة إدارة التنوع.
ونحن نبنى مؤسسات جديدة، ينبغى أن ندرك أنها ملك الجميع، وانتظامها على أساس التعددية يحافظ عليها، ويحول دون تمزقها.