التكوين السياسى مطلوب لمن يتولى موقعا عاما خاصة كلما علا قدره، وتولى مناصب مهمة، وأصبح فى مصيدة الإعلام. فى الفترة الأخيرة صدرت تصريحات لوزراء وكبار المسئولين أثارت غبارا، ولغطا فى الرأى العام، أمتد تأثيره إلى الخارج. بعضها كان بحق، وبعضها كان تعبيرا عن نكاية سياسية لا أكثر، المهم أن هناك تصريحا، لم يكن موفقا، أسىء فهمه، وسبب موجة اعتراضات، خاصة على صفحات التواصل الاجتماعى التى أصبحت تنقل مباشرة دون «فلتر» أو وسيط انفعالات الناس، وردود أفعالها. بالمناسبة هذه ليست مشكلة فى السياسة المصرية فقط، هناك تصريحات وردت على ألسنة مسئولين فى دول العالم سببت جدلا، وصداما سياسيا، ولعل فى التصريحات والتعليقات و«التويتات» التى يطلقها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب العبرة، وكثير ممن يُطلق عليهم قادة «شعبويون» يستمدون شعبيتهم من عنف التصريحات، واللعب على غرائز المتطرفين، والدخول فى القضايا المحظورة.
فى كل الأحوال يجب أن يقيس السياسى تصريحاته جيدا لأنه يخاطب جمهورا غير محدد، وليس له هوية واحدة، تحكمه مصالح متناقضة، وتكثر حالات الاصطياد التى لا معنى لها. والناس فى دنيا السياسة لا تلتمس عذرا، ولا تلجأ إلى تحليل الدوافع، ولا تنظر إلى خصوصية الموقف، ولكن تتمسك بظاهر الكلام، وتنسج حوله ردود الأفعال، وقد تستغرب حين تجد مجموعات فى حالة تناقض وخلاف سياسى تتحد ضد وزير أو مسئول على خلفية تصريحات له لمجرد أن «مصلحة مؤقتة» جمعتهم.
أظن أن تراجع السياسة فى المجتمع هو السبب، وهى ظاهرة ليست وليدة اليوم، بل لها عدد من العقود. وقد تسبب ذلك أن نجد أشخاصا تتولى مواقع عامة دون أن تكون لهم خبرة أو تكوين سياسى، نظرا لأن اختيارهم جاء على أساس تكنوقراط بحت. يستوى فى هذا مؤيدون ومعارضون على السواء. وقد وجدنا فى أعقاب يناير 2011م، سيلا من التصريحات التى لا معنى لها تجرى على ألسنة شخصيات محسوبة على كل أطراف المشهد السياسى، دون تفرقة، وأصبح إحدى وظائف الإعلام ــ فى إطار الصراع السياسى ــ البحث فيما هو غريب وشاذ فى التصريحات، حتى يسلط عليها الضوء. نتذكر تصريحات غريبة ومثيرة نسبت لمسئولين كبار، بعضهم تولى مواقع قيادية عليا مثلما حدث فى السنة التى تولى الإخوان المسلمون فيها الحكم.
يبدو أن الحل يكمن فى التفكير فى عودة «مدرسة السياسة» ــ أى التكوين الفكرى والثقافى لمن يتولى مواقع عامة، فى إطار العمل الوطنى، وهو دور كانت تلعبه فى السابق منظمة الشباب، والاتحاد الاشتراكى، وغيرها من التكوينات التى لم يعد ممكنا استعادتها، ولكن يمكن استعادة فلسفتها ــ أى تكوين القيادات، وتوجيه سلوكهم فى المجال العام. تتولى الأحزاب فى الدول الديمقراطية هذه الوظيفة، بما لها من حضور ومشاركة، وفرص تدريب وصقل مهارات، ويمكن أن تتولاها مؤسسات الدولة أيضا، وهناك تجارب رائدة مثل معاهد الإدارة العامة فى الهند التى تقوم على تأهيل القيادات على تولى المواقع العامة فى جهاز الدولة، وتهيئتهم لتحمل أعباء الوظيفة، بما فى ذلك ضغوط العمل، ومؤثرات الرأى العام، وغيرها. أعرف أن هناك الأكاديمية الوطنية للشباب، ومؤسسات أخرى توفر مجالات للتدريب والتعليم، ولكن المسألة تحتاج إلى توسع، وتدريب مستمر، خاصة بالنسبة للقيادات الوسيطة ــ وليس فقط الشباب ــ ممن يتوقع أن يتولوا مواقع قيادية فى مؤسسات الدولة.