منذ أشهر قليلة صدر تقرير مثير عن بعض المختصين، يتعلق بنظام التعليم فى الولايات المتحدة الامريكية. أشار التقرير الذى تداولته وسائل الإعلام إلى إن التلاميذ سوف يتوقفون بحلول شتاء هذا العام عن تَعَلُّم الكتابة بحروف متصلة. عرفت أن بعض الولايات استبقت التقرير وما حواه مِن ملحوظات ومقترحات، وأعلنت قبل صدوره بفترة طويلة، إلغاء الكتابة اليدوية تماما مِن برامجها التعليمية. أصدر الخبراء هناك أحكاما صارمة؛ بوجوب التَخَلُّص مِن عملية الكتابة باليد، مؤكدين أن عصرها قد انتهى، وأن استمرار تعليمها للأطفال جنبا إلى جنب مع الكتابة الإلكترونية أمرٌ عبثيّ. رأوا أن امتلاك المدارس للتكنولوجيا الحديثة منذ البداية أهم وأجدى، بحيث لا يضطَرّ الطفل إلى الإمساك بالقلم، ولا يُصاب بالارتباك بين الطريقتين. تصبح حياته الدراسية مُكَرَّسة للنَقرِ على الأزرار.
الأسباب التى استند إليها المرحبون بالتقرير وملحوظاته تتعلق فعليا بانتشار الكتابة على لوحة المفاتيح الإلكترونية، فقد صارت الوسيلة الأكثر سهولة بالنسبة للأجيال الناشئة، بينما تحولت الكتابة اليدوية؛ سواء بحروف متصلة أو منفصلة، إلى عملٍ شاقٍ وغير مرغوب فيه.
•••
مرت فترة على هذا التقرير ثم لم ألبث أن قرأت أخيرا خبرا عن قيام ولاية «تنيسي» بفرض تَعَلُّم الكتابة، بالحروف المتصلة، على التلاميذ الصغار. جاء القرار بعد أن أدرك المسئولون أمرين: أولهما إن فرط استخدام لوحة الأزرار الإلكترونية يجعل الطفل غير قادر على مجرد التوقيع باسمه، وإنّ الطفل الذى لا يكتب بيده، يجد صعوبة حقيقية فى قراءة خط اليد؛ تصبح الكلمات أمام عينيه مثل الطلاسم التى يُجاهِد لحَلِّها.
تذكَّرت الحصص المدرسية المُخَصَّصة للخط العربيّ وكذلك للأبجديات الأخرى، أظننى كتبت وزميلاتى صفحات لا نهائية مِن الأحرف المنفردة، ومِن الكلمات المتشابكة، ثم مِن الجُمل الطويلة الكاملة، فى محاولة مِن المعلمين لجعل خطوطنا مُشَذَّبة جميلة. لم يفلح بعضنا بالطبع فى تنميق الخط وتجويده، لكنه صار على الأقل مَقروءا مُنَسَّقا.
تذكرت أيضَا القلم الرصاص الذى رافقنى لسنوات، وتوقى إلى الإمساك بالقلم الجاف؛ علامة التمكن والقدرة على اجتناب الأخطاء. تَذَكَّرت الممحاة التى كثيرا ما تركت ثقوبا فى أوراق الكراسات، تلك الممحاة التى حَلَّ مَحَلّها الآن زِرّ «delete»، زِرٌّ لا يحتاج استخدامه إلى أى مجهود. يضغطه المرء فيقوم بإلغاء جميع الأخطاء فى جزءٍ مِن الثانية ولا يترك وراءه أثرا؛ لا ثُقب ولا عِقاب.
•••
سألت بعض أقربائى ممن يقيمون خارج البلاد وخارج الولايات المتحدة أيضا، فوجدت أن أطفالهم لا يزالوا يتعلمون الكتابة بأيديهم، وأن المدارس لديهم ــ ومنها ما يقع فى كندا وأوروبا ــ لم تسع حتى الآن إلى استبدال لوحة المفاتيح والأزرار بأصابع الأطفال وأقلامهم. اكتشفت أيضا، وتعجبت من اكتشافى، بعض الدراسات التى أثبتت أن تعلم الكتابة بالحروف المتصلة يحتاج إلى وقت أقصر نسبيا من كتابة الحروف المنفصلة، وإن الأولى لذلك مفضلة لدى الصغار. دفعت هذه الدراسة إلى ذاكرتى بأعوام الدراسة النهائية وامتحاناتها فى كلية الطب، إذ قَدَّمَ إلينا ـ نصيحة هامة؛ مؤداها أن نحرص خلال إجابتنا على استخدام الحروف الانجليزية مُتصلة ومُنفصلة فى آن، بحيث نكتب نِصف الكلمة الواحدة متشابك ونصفها الآخر «فرط». الهدف هو إرضاء المُصَحِّح أيا كان نوع الكتابة الذى يُفَضِّلُه. لم يتبع أغلبنا النصيحة، فضيق الوقت وسرعة الكتابة لم يسمحا أبدا سوى بما اعتاد كلٌ مِنّا عليه.
•••
كثيرا ما ظننت أن الكتابة اليدوية ستختفى مِن حياتنا، لا بقرار تُصدره وزارة التعليم لصالح الوسائل الأكثر حداثة، بل لأن أحدا لا يَهتَمّ فى المدارس بمراجعة خطوط التلاميذ، أو يحرص على تحسينها، ولرداءتها قد لا يَتَمَكَّنون هم أنفسهم من تفسيرها. يكبر التلاميذ ويتولون المناصب ومنهم مَن يضع بصماته الكتابية فى كل مكان.
رغم ما أصاب الخط مِن اعوجاج، لا تزال دواويننا الحكومية تستخدم الأوراق والأقلام والدفاتر. يُسَجِّل الموظفون البيانات، ويضعون علاماتهم فوق الصفحات، ويفرشون بينها شرائح الكربون، ليحصلوا على نسخ مِن المستندات الرسمية التى يحررونها، وحتى هذه اللحظة تعتمد البنوك على التوقيع اليدويّ الذى تُمهَرُ به الشيكات، فتطابقه بما تحتفظ به حرصا على كشف أى تزوير، والشهر العَقَاريّ يعمل بالطريقة ذاتها، والتوكيلات تسرى كذلك، ولو عَجَز الناس كُلِّية عن الكِتابة لأصاب الشلل نسبة كبيرة مِن المصالح والمؤسسات.
على كل حال، لا تزال مهنة الخطاط حاضرة حتى يومنا هذا، تنتعش فى مواعيد الانتخابات، وفى الأعياد والمناسبات. تصبح اللافتات الملونة، المنقوشة بيد الخَطّاط، وسيلة لتَذكِرة الناس بأسماء ورموز غائبة. لا يتعلم الخَطّاط حِرفته فى المدرسة، لكنه غالبا ما يرثها عن أبٍ أو معلمٍ كبير.