خريف ألمانيا الصعب.. وانتخابات الولايات الشرقية القادمة - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الإثنين 16 سبتمبر 2024 10:11 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خريف ألمانيا الصعب.. وانتخابات الولايات الشرقية القادمة

نشر فى : الجمعة 30 أغسطس 2024 - 7:40 م | آخر تحديث : الجمعة 30 أغسطس 2024 - 7:40 م

تقترب ألمانيا من خريف صعب فى ٢٠٢٤. ففى ١ سبتمبر، ستشهد ولايتان شرقيتان، ولاية تيرنجن وولاية ساكسون، انتخابات برلمانية يتوقع أن يسجل بها اليمين المتطرف كما اليسار المتطرف حضورًا لافتًا. بل إن بعض استطلاعات تفضيلات الناخبات والناخبين يدلل على أن حزب البديل لألمانيا - صاحب البرنامج اليمينى المتطرف- قد يصبح القوة الحزبية الأولى فى ولاية من الولايتين على الأقل. كذلك، تظهر ذات الاستطلاعات أن اليسار المتطرف الذى تقوده السيدة سارة فاجنكنشت، والتى أسست مؤخرًا حزبًا سمى على اسمها وتتبنى سياسات مناهضة للهجرة وللاتحاد الأوروبى وتعارض الدعم الألمانى لأوكرانيا، هذا اليسار قد يحصل على تمثيل برلمانى مؤثر فى الولايتين.

فى المقابل، تبدو حظوظ أكبر أحزاب المعارضة على المستوى الفيدرالى، الحزب المسيحى الديمقراطى جيدة بينما تنهار فرص الحزب الاشتراكى الديمقراطى الذى يقود الائتلاف الفيدرالى الحاكم منذ عدة سنوات.

فالأزمات الداخلية تحاصر المستشار أولاف شولتس من كل صوب وحدب، وانهيار الرضاء الشعبى عن سياسات حكومته المكونة من حزبه الاشتراكى الديمقراطى وحزب الخضر (يسار الوسط) والحزب الديمقراطى الحر (يمين الوسط) تثبته استطلاعات الرأى العام الأسبوعية.

كذلك تمر ألمانيا خارجيًا بفترة صعبة تشهد توترات مستمرة فى العلاقة مع الحلفاء الأوروبيين، وعجزًا عن إيقاف الحرب الروسية على أوكرانيا التى تهدد أمن الألمان والشعوب الأوروبية، وتصاعدًا لحملات الدعاية السلبية عالميا بعد الصمت الألمانى على الحرب على غزة ومواصلة الائتلاف الحاكم تقديم السلاح والذخيرة والدعم العسكرى والمالى للحكومة الإسرائيلية.

• • •

كنت على شىء من الدراية بتلك الأزمات والتوترات بفعل متابعتى للصحافة الألمانية. غير أننى لم أدرك تداعياتها الفعلية والكثيرة على حياة الناس إلا حين قدمت برلين خلال شهر يوليو الماضى فى زيارة أسرية، وأتيح لى التواصل مع بعض الأصدقاء من سكان المدينة.

قدمت العاصمة الألمانية مستقلًا القطار السريع من عاصمة أوروبية قريبة، وكان يفترض أن تستغرق رحلتى 4 ساعات. غير أن أعطالًا فنية متكررة على خط القطار ما أن بلغنا الأراضى الألمانية رتبت وصولى متأخرًا بما يقرب من ٤ ساعات، ودفعتنى إلى التقدم بشكوى إلى إدارة السكك الحديدية والبحث على مواقع التواصل عن معلومات عن حال «دى دويتشه بان» (السكك الحديدية الألمانية) التى كان يباهى بها الألمان العالم لانضباط مواعيدها وجودة خدماتها. فاكتشفت أن السكك الحديدية الألمانية تراجعت بشدة خلال السنوات الماضية بسبب غياب الاستثمارات الحكومية والخاصة اللازمة لتحديثها (يبلغ إجمالى العجز الاستثمارى ٦٠ مليار يورو)، إن نحو تعميم القطارات الكهربائية (لا تتجاوز نسبة تشغيل القطارات الكهربائية إلى إجمالى القطارات العاملة فى السكك الحديدية الألمانية حد الـ٣٥ بالمائة) أو تحسين الخطوط والشبكات للقضاء على الأعطال والتأخر المستمر (بلغ المتوسط اليومى لوقت الأعطال والتأخر اليومى فى القطارات الألمانية ما يقرب من ٣ ساعات، بينما لا يتجاوز المتوسط المقارن فى سويسرا ٣ دقائق وفى اليابان ٣٦ ثانية).

اكتشفت أيضًا أن السكك الحديدية صارت مادة للسخرية والتندر مما آلت إليه أحوال البلد صاحب الاقتصاد الأوروبى الأكبر الذى صار فى طور الانكماش وفقا للبيانات الاقتصادية للعام الماضى ٢٠٢٣، وساحة لصراعات الأحزاب السياسية التى تعد جميعها بالتحديث حين تكون فى صفوف المعارضة ولا تنفذ من وعودها شيئًا حين تصل إلى مقاعد الحكم.

• • •

كأن تأخر القطار فى طريقى إلى برلين كان بمثابة مقدمة للأزمات الأخرى التى أحاطت بى فى الصيف الألمانى، فما أن وصلت إلى وجهتى إلا واتضح لى المدى الحقيقى لأزمة الغاز والطاقة التى تقض مضاجع المواطنات والمواطنين.

فى منازل الأهل والأصدقاء، وبسبب الخوف من فواتير الغاز والكهرباء القادمة، يحد الجميع من استهلاكه للطاقة بطرق مختلفة: ١) فى الشتاء تدفئة وإنارة غرفة المعيشة كغرفة وحيدة مؤهلة لحياة الأسرة وترك بقية الغرف دونهما منعًا لاستهلاك الطاقة وفى الصيف يتحول الأمر إلى إنارة غرفة المعيشة فقط والاقتصاد فى استهلاك الطاقة بكافة الأشكال الممكنة، ٢) فى الشتاء، تغيير عادات الملبس داخل المنازل لتواكب درجة البرودة خارجها بحيث تستخدم الملابس الشتوية الثقيلة أيضًا فى الداخل (أو كما قالت لى صديقة برلينية لديها من الأولاد ٤ أنها أضحت تمنعهم من ارتداء الملابس الصيفية ورفع درجات التدفئة داخل المنزل فى الشتاء)، ويصير الأمر فى الصيف دعوة إلى قضاء أوقات أطول فى المتنزهات العامة، ٣) الامتناع المتعمد من قبل كُثر عن إنارة الدرج توفيرًا للكهرباء وابتعاد من يملكون أدوات كهربائية كمالية (كمنشفات الملابس) عن تشغيلها.

وإذا كانت الأسر الألمانية تقتصد عن وعى فيما خص استهلاكها للغاز والكهرباء توفيرًا للطاقة، فإن الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات تقتصد أيضا بتقليل التدفئة والإنارة فى الأماكن العامة وفى وسائل المواصلات. يحدث ذلك بينما تتناقل الصحف ووسائل الإعلام أخبار تطورات المخزون الوطنى من الغاز ومعدلات الاستهلاك المنتقص منه، فقد علمت على سبيل المثال كغريب عائد أن المخزون الوطنى انخفض بنسبة تتجاوز ٣ بالمائة بسبب استهلاك الأفراد والمصالح الحكومية والاقتصادية والتجارية خلال الشتاء الماضى، وأن حكومة المستشار شولتس تعمل على التعويض السريع.

ثم تتواكب أزمة تدهور السكك الحديدية وأزمة التعامل مع نقص إمدادات الطاقة وتداعياتها على التدفئة والكهرباء، تتواكب مع عودة جائحة كورونا فى موجة جديدة ترهق الناس وترفع معدلات الإشغال فى وحدات العناية المركزة فى المستشفيات الحكومية والخاصة.

يتواكب كل ذلك مع انهيار معدلات الرضاء الشعبى عن حكومة شولتس بأحزابها الاشتراكى الديمقراطى والخضر والديمقراطى الحر (ائتلاف إشارة المرور كما يسمونه فى ألمانيا نظرًا لألوان أحزابه، الأحمر للاشتراكيين والأخضر للخضر والأصفر للديمقراطيين الأحرار)، بسبب صراعاتها البينية المتكررة (وهى صراعات علنية تحدث فى البرامج التليفزيونية الحوارية) والفجوة الواسعة بين برامجها الانتخابية التى وعدت الألمان بالتحديث التكنولوجى والطاقة المتجددة وجسر الهوة بين الأغنياء والفقراء والقضاء على فقر الأطفال وبين حقيقة سياساتها بعد انقضاء أكثر من نصف الدورة البرلمانية والحكومية التى جاءت بائتلاف إشارة المرور وبالمستشار شولتس.

• • •

فيما خص علاقات ألمانيا الخارجية، فقد صار واضحا عجز حكومة شولتس عن الاضطلاع بالدور التقليدى لجمهورية برلين فى صناعة التوافق بين روسيا وأوروبا وبين المصالح القارية الأوروبية والسياسات الأمريكية. بل إن التخلى الألمانى عن الحياد فيما خص الصراعات العسكرية والابتعاد عن توريط السلاح الألمانى فى ساحات الحروب والقتال، ذلك التخلى الذى قاده الحزب الاشتراكى الديمقراطى صاحب إرث «سياسة الشرق» والانفتاح على روسيا وحزب الخضر الذى خرج من رحم حركة السلام الألمانية فى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، أضحى الملمح الأهم لسياسة ألمانيا الخارجية وللخطاب العلنى لوزيرة الخارجية، أنالينا بيربوك، التى لا تمل من إلقاء «محاضرات فى القيم الديمقراطية» على مسامع الشعوب الأوروبية والعالم خارج الغرب ولم يُسجل لها إلى اليوم نجاح دبلوماسى واحد وتكتفى بالإصرار على مواصلة الدعم العسكرى والمالى لأوكرانيا حتى وإن استخدمت الأسلحة الألمانية فى اعتداءات على الأراضى الروسية.

تخلت ألمانيا عن حيادها العسكرى، فافتقدت القدرة على الوساطة لحل الخلاف والصراع مع روسيا. عسكرت السياسة الخارجية الألمانية وأضحت وزيرة الخارجية تحاضر عن القيم العليا، بينما ألمانيا تقدم السلاح إلى مناطق الحروب وتطيل من ثم من زمن المعارك فى أوكرانيا وروسيا وفى غزة. والحصيلة هى انفضاض العالم بعيدا عن ألمانيا التى كان اعتدالها ومرونتها وسياسات اليد الهادئة لحكوماتها مصدر قوتها وفاعليتها فى أوروبا وخارجها.

ولأن ائتلاف إشارة المرور يستبدل تصدير السلاح والمحاضرات فى القيم بالحياد العسكرى والاعتدال والمرونة، تواجه ألمانيا أزماتها الداخلية العديدة، والتوترات الخارجية المحيطة بها تتراكم، وحالة القلق العام التى يشعر بها العدد الأكبر من المواطنات والمواطنين تتصاعد.

 

أستاذ علوم سياسية، بجامعة ستانفورد

 

 

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات